وسط أجواء مشتعلة وأوضاع متردية يحوطها الخراب من كل جانب يعيش الفلاح المصرى أسوأ أيامه, يبدو أن ذلك المسكين الذى طالما تحمل وصبر قد آن له الآوان ينفجر, فالصورة جد قاتمة والأفق يبدو على الدوام غائماً راعداً, كل الشواهد تدعو إلى وقفة سريعة وحاسمة قبل الكارثة والتى إن حلت لن تبقى ولن تذر, فقطاع الزراعة فى مصر قد شهد تدهوراً كبيراً فى العقود الثلاثة الخيرة, بلغ ذروته فى السنوات الاخيرة تحديداً, ورغم تطور الآليات المستخدمة والطفرة التى أحدثتها الهندسة الوراثية واقتحام التكنولوجيا لهذا المجال الذى لم يكن يعرف سوى الفلاح وماشيته لا غير إلا أن أزمة الضمير التى لا يخلو منها كل زمان ومكان قد أفسدت كل شىء, من أول الهرمونات والمبيدات المحظورة دولياً والأدوية المسرطنة التى عرفت طريقها إلى أرضنا الطيبة على أيدى شرذمة من معدومى الضمير أعداء الوطن, إلى اغتيال المحاصيل الواحد تلو الآخر لصالح الكبار.
كانت مواسم الحصاد هى أعياد الفلاح الحقيقة التى لا يعرف غيرها على امتداد عامه, فى كل المواسم كان يردد أناشيد الحصاد الجميلة, لم يكن هذا هوالفلاح أبداً ولم تكن تلك حاله فى هذه الأوقات المميزة لديه والتى ينتظرها بنفاد صبر, والتى كانت بداية للأفراح المؤجلة والشروع فى تحقيق الأحلام البسيطة والبسيطة جداً المرحلة من أوقات سابقة, حتى هذه الأحلام على بساطتها باتت عزيزة المنال بل مستحيلته وذهب إلى غير رجعة صفاء الذهن الذى نسجها بعد أن استمرأت الحكومة لعبة القط والفأر التى تمارسها مع الفلاح الغلبان بقصد إذلاله وكسر أنفه أكثر مما هو وكأن بينها وبينه ثأراًً “بايت”!
بداية القصة
بدأت القصة بإلغاء بنك التسليف الزراعى واستبداله ببنك التنمية والائتمان الزراعى “بنك القرية” والذى لا يختلف فى شىء عن البنوك التجارية, تلك الخطوة الفاشلة والتى لم تكن فى صالح الفلاح مطلقاً وفتحت عليه باباً لا طاقة له بريحه, وبدأت بدورها المشاكل التى جرتها عليه الديون والفوائد المركبة التى لم يكن يعرفها من قبل, ثم بدأ إضعاف دور الجمعيات الزراعية التى كانت تساعد الفلاح وتمده بما يحتاجه بأسعار معقولة تخصم من ثمن المحصول الذى يورده إليها فى آخر الموسم, واقتصر دور بنك القرية هذا على الإقراض بفوائد تقصم الظهر, فصار يقترض ليشترى مستلزماته الزراعية من السوق السوداء, الكارثة إن الحكومة تأتى على الجاهز لتتحكم في محصوله وتخسف بسعره الأرض فى حين انها تولع أسعار كل السلع حتى التافه منها, فوزارة الزراعة ليس لها دور مطلقاً فى حياة الفلاح غير أنها دأبت على تدبير المآزق والكوارث لهذا المسكين دونما ذنب, الأمر الذى أدى بكثير من المزارعين إلى البحث عن مهنة أخرى وهجر حرفة الزراعة كلية هرباً من قهر الحكومة وإذلال تلك الوزارة التى بصموا بالعشرة أنها أنشئت فى ساعة زحل.
مشروعات فاشلة
هذا غير الأعباء التى توالت على الفلاح الواحد تلو الآخر جراء المشروعات الفاشلة كالصرف الزراعى المغطى الذى أُجبر عليه الفلاح ولم تترك له الفرصة حتى لمجرد إبداء الرأى وإبراز مشكلاته باعتباره أدرى الناس بها حيث إنها متولدة من واقعه هو لا من واقع مسئولينا ساكنى الأبراج العاجية, وتم تنفيذ المشروع رغم أنف الجميع,بدأ الحفر والردم ودهس المزروعات وتبوير المساحات وحرق القلوب من دون أدنى تعويض, ومنذ الوهلة الأولى أدرك الفلاح فشل هذا المشروع الذى كلفه الكثير والكثير جداً, كذلك مشروع تطوير الرى الذى فى حقيقته تدمير للرى والذى أجبر عليه الفلاح أيضاً رغم مشاكله الجمة تحت الضغط والتهديد حيث وصلت الأمور إلى اقتياد أهل القرى إلى مراكز الشرطة واحتجازهم حتى يذعنوا لهذا المشروع, وكما حدث فى السابق حدث فى اللاحق ومرت الأيام والشهور والسنين وتم الانتهاء من المشروع وغادر المهندسون والعمال القرى عائدين من حيث أتوا مخلفين وراءهم كماً من المشكلات الطاحنة التى تولدت منذ اللحظة الأولى واستمرت وكبرت مع الأيام حتى تفاقمت وبات فى حكم المستحيل السيطرة عليها, ومما زاد الطين بلة تلك المبالغ المرهقة التى يحصلها منهم قطاع تطوير الرى نظير هذه الكارثة الإنسانية التى بلاهم بها وراح ضحيتها أرواح بريئة فى المشاحنات والمشاجرات التى كانت تنشب ومازالت بسبب الخلاف على نوبات الرى وتصل إلى التعدى بالأيدى والادوات الحادة, هذا غير الأعطال التى تصيب الماكينات فى مقتل ويستعصى إصلاحها ويضطر الفلاحون إلى العودة لطرقهم التقليدية القديمة فى الرى إلى جانب اختفاء بعض الماكينات من اماكنها وتحميل الفلاحين مسئولية اختفائها مع العلم بأنها آلات معقدة وكبيرة الحجم جداً ولا قبل لهم بمعرفة طرق فكها وتركيبها, والنتيجة مزيد من الخسائر والدمار.
كارثة بنجر السكر
قصة من دفتر أحوال الزراعة فى مصريرويها مهندس زراعى كرم عطا الله فيقول: فى أوائل التسعينات وتحديداً عام 92حيث واجه الفلاحون الغلابة كارثة بنجر السكر وكانوا حديثى العهد بهذا المحصول الذى اعتبروه معادلاً فى القيمة والأهمية لمحصول القطن الرئيسى بالنسبة لهم, حيث تعاقد معهم المصنع وكان الوحيد آنذاك على مستوى الجمهورية على المساحة التى يفى إنتاجها بتشغيله وبالفعل التزم المزارعون بكل شروط العقد وفى موسم الحصاد فوجىء المساكين بآلاف الحمولات التى بها ملايين الأطنان من البنجر تأتى من النوبارية ولأنها تخص “ناس كبار” كان لها الأولوية بالطبع, وغير مأسوف عليهم ولا على محصولهم ضاع صغار المزارعين سنتها, وظل تأثير هذة الكارثة لعدة سنوات بعدها, حيث تضاءلت زراعة البنجر بصورة كبيرة جداً , ويضيف م.عطا الله: نفس الكارثة تكررت فى أواخر التسعينات وبالتحديد عام98 مع افتتاح خط انتاج مواز إلى جوارالخط القديم, وكانت النتيجة للمرة الثانية أن الحصول ظل مرمياً أمام المنازل وعلى رءوس الغيطان وفى الطرقات الرئيسية والفرعية بالريف المصرى لا يكاد يرى من أسراب الطيور والحيوانات والحشرات التى تنهش فى شحمه ولحمه حتى أصابه التعفن, وبعد أن لدغ المزارعون من جحر مرتين قرروا مقاطعة زراعة البنجر بالثلث وتركوا المجال للكبار وفوضوا أمرهم لله!
مأساة الذهب الأبيض
للمرة الثانية خلال ثلاث سنوات يشهد “الذهب الأبيض” أسود سنينة, وإنما يدل ذلك على أن السياسات الزراعية فى مصر تحتاح إلى تغير جذرى, هذا ما أكده د. عادل خطاب أستاذ المحاصيل بزراعة المنوفية وأردف قائلاً: وما كارثة القطن الأولى منا ببعيد, تلك الأزمة التى عاشها مزارعى القطن منذ ما يقرب من الثلاثة أعوام ولاتزال ممتدة وكانت مؤشراً خطيراً كشف بوضوح فشل هذه السياسات, فالقطن محصول رئيسى بالنسبة للفلاح كما كان للاقتصاد القومى فى فترة من الفترات ليست بالبعيدة, فقد كانت مصر تنفرد بإنتاج أجود الأقطان فى العالم وهذا من المفترض أنه يعنى أن يقدر هذا الإنتاج المتميز بأعلى الأسعار, ويجب أن نفخر به ونحفز الفلاح على زراعته على نطاق أوسع مع تكثيف الرعاية والعناية به لا أن تتعامل معه الحكومة على هذا النحو المهين, والذى من شأنه أن يؤدى إلى عزوف الفلاح بالكلية عن زراعة القطن فيما بعد, وبخاصة أنها زرعة مكلفة وتستنزف الكثير من مقدراته وجهده, وهذا ما حدث وما أُثر بدوره على استقرار تلك الشريحة العريضة من المجتمع المصرى التى تنتظر موسم الجنى بفروغ صبر, لأنه وبلا أية مبالغة موسم الأفراح لعامة الفلاحين, ويضيف د. خطاب: وبعد أن كانت مصر أولى البلاد المصدرة للقطن فى الماضى, وبعد أن كان القطن أهم المحاصيل الإستراتيجية على الاطلاق وأهم مصدر لتوفير العملة الصعبة انقلبت الآية وأصبح لا يعنى الحكومة فى شىء كل هذا, بل وحاربت صراحة هذا المحصول وتمادت فى ضغوطها على الفلاح لدرجة أرهقته بل أذلتة, وهذا يدل على فشل الحكومة الذريع على مر السنين وعجزها عن فتح أسواق فى البورصات العالمية ومواكبة التطور الرهيب والمستمر فى آليات السوق, وبخاصة وأن دول شرق آسيا دأبت على استحداث البدائل غير المكلفة من خلطات الألياف والتى تصّنعها وتغرق بها السوق وبأسعار منخفضة, حتى أمريكا اتجهت فى السنوات الأخيرة لتحسين إنتاج ونوعية الأقطان لديها, وكذلك اسرائيل وذلك للاستغناء كلية عن القطن المصرى وضربه فى السوق العالمية وهذا ما حدث بالفعل, ويؤكد د. خطاب أن البشائر بدت منذ ذلك الحين حيث بدأت كليات الزراعة بالأمر فى تدريس “كورسات” عن خلطات الألياف الصناعية كبديل للقطن وأنه شخصياً يقوم مضطراًً بتدريسها بناء على التعليمات, وهذا يعنى أن القطن المصرى إن عاجلاً أم آجلاً سيصبح فى ذمة الله, وبخاصة وأن الأزمة نفسها تتكرر هذه الأيام وهاهو المحصول مكدساً بالمنازل واللأجران والساحات بعد أن أصبح بلا ثمن ولاقيمة.
نكبة القمح الكبرى
صفحة اخرى أكثر قتامة من دفتر أحوال الزراعة فى مصر يرويها واقع آلاف بل ملايين من مزارعى القمح على مستوى الجمهورية والذين أصيبوا بصدمة كبرى العام الماضى عندما حل موسم الحصاد الذى كان أجمل أعياد الفلاح على الأطلاق منذ أيام الفراعنة وحتى وقت قريب, ولأن حفنة من مستوردى القمح الأمريكى اللعين يريدون ذلك فقد حيكت المؤامرة للقمح المصرى الذى يفوقه بمراحل وخسفت الحكومة بسعره الأرض بعدما تم خداع المزارعين بزيادة المساحات المنزرعة مقابل تسويق المحصول بصورة جيدة وسعر أجود, ورغم الأعباء التى تحملها المزارع وحده بعيداً الحكومة ممثلة فى وزارة الزراعة, فقد فوجىء الفلاح “ابن البلد” بحكومته الميمونة تتحفه بعدة قرارات لم تكن فى الحسبان, أولها تخفيض السعر وآخرها وضع شروط ومواصفات مجحفة لقبول المحصول, كما قررت تقليص فترة التوريد الأمر الذى أدى إلى تكدس المحصول بالمنازل والساحات وإلى جواره مزارعوه يبكون شقاء الأيام والشهور وينعون حظهم العثر ويقسمون على مقاطعة زراعته هو الآخر وهو ما حدث فيما بعد, مودعين إلى الأبد آخر أناشيد الحصاد, وتحول هذا العيد المهم إلى موسم من مواسم الخراب المتعددة على مدار العام, وبعد أشهر قليلة تكشفت كارثة الأقماح المستورة المسرطنة, تلك الكارثة التى هزت الرأى العام فأعدم منها ما أعدم وتسرب منها ما تسرب إلى معدة المصريين التى تهضم الزلط , ورغم حاجة السوق الماسة إلى كل حبة قمح بعدها إلا أن الفلاحين الغلابة ليسوا حمل صدمات ومؤامرات أخرى وآثروا ألا يلدغوا من نفس الجحر مرة ثانية و حافظوا على عزوفهم عن زراعة القمح هذا العام, والنتيجة هى ما نراه الأن من تفاقم أزمة رغيف العيش ولا فخر, وبخاصة بعد الارتفاع الجنونى فى اسعار الحبوب فى السوق العالمية وهكذا لحق القمح غير مأسوف عليه بالقطن والبنجر والبقية تأتى, وحسبما يلوح فى الأفق القاتم سيكون الدور على الأرز والبوادر هلت بالفعل حتى قبل موسم الحصاد حيث انعدمت مياة الرى فى الغالبية العظمى من القرى وجفت المشاتل واستبدلت مرات إلى جانب مشكلات جوهرية أخرى متعلقة بالتقاوى والأسمدة والمبيدات إلى آخره!
حكومة الأزمات إلى أين؟!
مأساة ممتدة بطلها كيان ضعيف لا حول له ولا قوة, إنه الفلاح المصرى, ذلك الجندى المجهول الذى لا يقدره أحد ولا تهتم به جهة, المنسى فى مغارة الاهمال, الملقى على هامش الوجود الآدمى وهو أكثر الناس عشقاً وانتماءً لتراب هذا الوطن الذى يحيا على أرضه لصلته الوثيقة والمباشرة بهذه الأرض, فهى مصدر رزقه وعليها يبنى كل حاضره ومستقبله, ومع ذلك يصر من بيدهم مقاليد أمره على تكسير عظامه وفرم لحمه!
هذا هو الفلاح الذى لاتعرفون عنه شيئاً أيها الساسة ساكنو الأبراج العاجية هذا هو الفلاح الذى تمتصون دمه وتحاربونه فى لقمة عيشه البسيطةجدا, أبسط كثراًً من فتات موائدكم, هذا هو الفلاح الذى “طهقتوه” فى عيشته وحولتم حياته إلى جحيم وغدت أيامه أسود من قرن الخروب.
لصالح من تستنزف طاقات هؤلاء البسطاء وتهدر مقدراتهم؟ وهل لايزال هناك من يزعجه هذا الخراب المستعجل الذى يلحق بالفلاح الغلبان عاماً بعد عام ويؤثر بدوره على الاقتصاد القومى ؟!
حكومة الأزمات إلى أين؟ رفقاً بالفلاح قبل أن يأتى الوقت الذى تصبح فيه الزراعة فى مصر حدوتة بائدة عندما تحكى لابد أن تسبقها تلك الجملة الشهيرة “كان ياما كان” !!