شهدت الأيام القليلة الماضية، فتح ملف رجال الأعمال المصريين الهاربين منذ سنوات، وتجددت الدماء فى شرايين هذه القضية بسبب نية الدولة المصرية فى إغلاق هذه الملف نهائياً بعد أن ظل مفتوحاً لأكثر من عشر سنوات، و قد مرت الأزمة بين الدولة ورجال الأعمال الهاربين بعدة مراحل، إنتهت إلى الوصول لصيغة تم الاتفاق عليها مع جميع الأطراف.
( نداءات ثم تهديدات وأخيرًا تسويات )
المرحلة الأولى التى مرت بها هذه الأزمة، كانت “مرحلة النداءات”، التى بدأت بعد هروب 75 رجل أعمال خارج مصر منذ بداية التسعينيات، فكان من الغريب، أن يوجه الدكتور عاطف عبيد، رئيس الوزراء الأسبق، دعوة لرجال الأعمال الهاربين من سداد مديونياتهم البنكية البالغة نحو 3.5 مليار جنيه، “ما يعادل 755 مليون دولار”، بالعودة لبلادهم، وبعد نداء رئيس الوزراء، ناشد المستشار ماهر عبد الواحد، النائب العام المصرى، مجدداً رجال الأعمال الذين استولوا على أموال البنوك وهربوا بها خارج البلاد بالعودة إلى مصر لتسوية ديونهم للبنوك، مقابل حفظ القضايا المقامة من النيابة العامة ضدهم.
وتساءل الخبراء وقتها عن السبب الذى يدفع مصر إلى عدم اللجوء لمقاضاة بعض رجال الأعمال المدينين بمبالغ ضخمة والهاربين خارج حدود البلاد، أو طلب القبض عليهم بالتنسيق مع «الإنتربول» الدولى ليمثلوا أمام جهات التحقيق، رغم معرفة أماكنهم فى فرنسا وإنجلترا وكندا والبرازيل .
أما المرحلة الثانية التى مرت بها هذه الأزمة، فكانت بعد عدة سنوات من نداء رئيس الوزراء المصرى، وهى مرحلة “التهديدات” حين أعلنت الداخلية المصرية مؤخراً عن خطة أمنية لملاحقة رجال الأعمال الهاربين .
وقال مصدر أمنى لجريدة الرأى الحر : “إن عدم وجود اتفاقية مع بريطانيا لتبادل المجرمين، وحصول معظم رجال الأعمال على جنسيات أخرى، وارتفاع حجم استثماراتهم، قد أدى إلى وجود عقبات لتسليمهم إلى مصر، وكانت أجهزة الأمن قد استعادت مائة من رجال الأعمال الهاربين الصادرة ضدهم أحكام قضائية.
إنتهت هذه المراحل، بمرحلة “التسويات” حين تخلت الحكومة عن وصف رجال الأعمال الهاربين بـ”المتعثرين” لتجميل صورتهم فى حالة العودة إلى مصر.
لكن الأغرب، أن رجال الأعمال الهاربين من مصر، تزايد عددهم بشكل ملحوظ فى السنوات الأخيرة، لدرجة أنه من القليل أن يحاكم رجل أعمال مصرى، وكان من بين هذه الاستثناءات، محاكمة هشام طلعت مصطفى، المتهم بقتل المطربة سوزان تميم .
( الجيل الأول من الهاربين .. المرأة الحديدية )
بزغت هذه الظاهرة فى مصر مع الانفتاح الاقتصادى وسياسات الاقتصاد الحر، مع بداية الثمانينيات، وربما كان أقدم الهاربين هو رجل الأعمال توفيق عبد الحى، الذى فر في 18 فبراير 1982 إثر الإعلان عن ضبط صفقة استيراد دواجن فاسدة “1426 طناً” كانت على وشك التوزيع على منافذ البيع، بجانب قضايا مالية أخرى، بعد أن حصل على ما لا يقل عن 15 مليون دولار من ثلاثة بنوك كبرى بلا أى ضمانات أو مستندات، وعندما استدعته النيابة اكتشفت أنه استغل رئاسته لبعثة إحدى الألعاب الرياضية فى التسلل إلى الخارج، وبمعنى أصح، فقد هرب بقرار وزارى صدر قبل قرار الإدراج على قوائم المنع بيومين فقط ، فقد صدر قرار منع توفيق عبد الحى من السفر في 20 فبراير 1982.
وسرعان ما كبرت كرة الثلج لتصبح الإتهامات أكبر وأخطر بعد شهر من سفره، أى فى مارس من ذلك العام، وفور علمه بقرار إدراج اسمه استقر فى اليونان ، لعدم وجود اتفاقية بين القاهرة وأثينا تقضى بتبادل تسليم المتهمين الهاربين، وللمفارقة، فإن زوجة توفيق عبد الحى غادرت مصر فى مارس 1982، ليصدر قرار منعها من مغادرة البلاد بعد سفرها بيومٍ واحد .
تضمن نفس الجيل، بروز اسم سيدة الأعمال هدى عبد المنعم، التى أطلق عليها وصف: المرأة الحديدية ، بعد أن اتُهِمَت في القضية التى تحمل رقم 3565 لسنة 1984، وصدر حكم بحبسها ثلاث سنواتٍ مع الشغل، لإصدارها شيكاً بدون رصيد بقيمة 50 مليون جنيه، وكانت هدى عبد المنعم، التى شغلت منصب رئيس مجلس إدارة الشركة الدولية للإنشاء وهيدكو مصر، قد حصلت على تسهيلاتٍ ائتمانية بموجب أوراق مزورة، وأكد تقرير الرقابة الإدارية وقتها أن هدى حصلت على العديد من التسهيلات من بنوكٍ عدة من دون ضمانات، وأخرى بضمانات مزورة من بنك القاهرة والبنك العربي الإفريقى، وبنك قناة السويس، وأيضاً البنك التجارى الدولى .
بالرغم من إدراج إسمها فى قائمة الممنوعين من السفر، فإن هدى عبد المنعم تمكنت من الفرار بإستخدام حيلةٍ ذكية، وبمعاونة أيادٍ خفية، فقد دخلت صالة السفر وهى ترتدى حجاباً وتضع مكياجاً متقناً لتقترب من ملامح ابنتها الكبرى التى كانت تحمل جواز سفرها.
سيناريو الهروب كما تخيله رجال الأمن بعد ذلك، تضمن قيام معاونها الذى سهلَ لها السفر بتسليم جواز سفرها وختمه من دون أن يرى الضابط صاحبة جواز السفر، لتتمكن المرأة الحديدية من الهروب بجواز سفر الإبنة إلى اليونان، التى تمتلك فيها حالياً شركة باسم جولدن جلف للشحن البحرى، وهذه الشركة ليست لها مراكب، ومكتبها عبارة عن غرفة صغيرة فى إحدى البنايات، وتم تسجيلها فى بنما وتحصل على إعفاءات ضريبية وتمنح الإقامة للجنسيات الأجنبية، وهو ما تستغله هدى عبدالمنعم، حيث تقوم بالمتاجرة والسمسرة فى العمالة الآسيوية.
ثم توالت عمليات الهروب، التى شملت عادل مبارك فهمى، صاحب شركة دوارف، وقد هرب إلى لندن ومعه 375 مليون جنيه، بعد أن نصب على خمسة بنوك ، ومحمود وهبة ، الذى استولى على 300 مليون جنيه من بنكى الأهلى وأمريكا اكسبريس ، وهانى يعقوب، شقيق الجراح العالمى مجدى يعقوب، الذى هرب بـ 200 مليون جنيه ، وتوفيق زغلول بـ 50 مليوناً ، ومبارك حلمى 500 مليون ، وحاتم الهوارى بـ 700 مليون ومحمد الجارحى بـ700 مليون ومنى الشافعى 43 مليوناً … إلخ .
مع هروب كل هؤلاء، فشلت عملية هروب وحيدة لرجل الأعمال فوزى السيد ، الذى كاد أن ينجح فى الهروب عن طريق أحد العاملين الذى ختم جواز سفره ، وطلب من أمين الشرطة عدم عرض الورقة الخاصة ببيانات رجل الأعمال فى الكمبيوتر، مما جعل رجل الأمن يرتاب فيه ويعرض الأمر على ضباط المباحث الجنائية، الذين وضعوا الإسم على الكمبيوتر فتبين أنه مدرجٌ على قوائم المنع من السفر، فأحضروه من الطائرة التى كانت تستعد للإقلاع .
( الجيل الثانى .. المليارات الطائرة )
أما الجيل الثانى من الهاربين ، فتضمن أسماء جديدة فى عالم البيزنس والسياسة ، وعلى الرغم من ذلك ، فكانت حجم النقود المنهوبة تفوق خيال الجيل الأول من الهاربين ، وعلى رأسهم رامى لكح ، الذى هرب وهو مدين بمبلغ 1.2 مليار جنيه لنحو 9 بنوك، وحاتم الهوارى 500 مليون جنيه معظمها لبنك القاهرة ثم الأهلى ، وهاني يعقوب نصيف المدين بمبلغ 200 مليون جنيه لبنك القاهرة، وعمر النشرتى 300 مليون للبنك الأهلى، الذى كان يملك فرع شركة سينسبري فى مصر، والذى لا يعرف أحدٌ كيف نجح فى الهروب من مصر إلى بريطانيا.
وكانت محكمة مصرية قد أصدرت حكماً بسجن عمرو النشرتى 15 عاماً وشقيقه هشام 7 سنوات ، وسعيد سيف اليزل 10 سنوات، مسؤول فى شركة النشرتى ، بعد إدانتهم بالإستيلاء على أموال بنك قناة السويس والبنك الوطنى بدون ضماناتٍ، أو بعضها وهمية، وغسل الأموال والتربح والرشوة والتزوير فى أوراق رسمية.
وبعد الهرب من مصر، أقام عمرو النشرتى فى لندن، ليدير عدداً من المشروعات التجارية بعد أن استطاع الحصول على توكيلات لشركات عالمية ، أما هشام ، فإنه يمتلك مجموعة فنادق بمدينتى لوزان وجنيف فى سويسرا، ويديرها من هناك.
أما مصطفى البليدى، الذى هرب بعد أن إستولى على 358 مليون جنيه من 6 بنوك وطنية وامتنع عن سدادها، بالإضافة إلى أن البليدي صدرت ضده أحكام بالسجن لمدة 22 سنة ما بين جناية تهرب ضريبى وجناية تزوير وإصداره 18 شيكاً بدون رصيد قيمتها 10 ملايين جنيهاً وشيكاً آخر بدون رصيد قيمته 30 ألف جنيه استرليني عام 2000، فى العجوزة و3 قضايا محكوم عليه فيها بالحبس لمدد جملتها 6 سنوات ولم يسدد الكفالة، وبناء على ذلك أكد النائب العام أن المدعى العام الاشتراكى حجز على ممتلكات البليدى.
كما ظهر اسم عليه العيوطى ، العضو المنتدب السابق لبنك النيل ، التى تمتلك عائلتها ما يزيد على 50 بالمئة من أسهم البنك ، فقد غادرت مصر فى يوليو 1999 بطريقةٍ رسمية ما زالت تثير علامات الاستفهام ، إذ فوجئ ضابط الجوازات عند وضع البيانات الخاصة بها داخل الكمبيوتر بأنها مطلوبة واسمها مدرج على القوائم بناء على قرارٍ من النائب العام السابق المستشار رجاء العربى ، وقبل أن يتكلم ابتسمت له عليه قائلة ً: معى قرار من النائب العام المستشار رجاء العربى بالسماح لى بالسفر لمرة واحدة بقصد العلاج فى باريس، كان ذلك قبل أن يصدر ضدها حكم بالسجن لمدة عشر سنوات فى 13 يوليو 2002، فى أكبر فضيحة فسادٍ مصرفى ، وعرفت بقضية نواب القروض ، التى تورط فيها عدد كبير من نواب مجلس الشعب ورجال أعمال ووزير سياحة.
بالطبع كانت رحلة واحدة إلى فرنسا تكفى عليّه ، لأنها لم تعد منذ ذلك الحين ، فعلاجها الوحيد كان حكم البراءة أو إسقاط الحكم الصادر ضدها ، وهو ما لم يحدث حتى الآن .
( الجيل الثالث من الهاربين يستخدم البحر للهرب )
شملت لائحة الجيل الثالث من الهاربين العديد من الوجوه التى تصدرت بورصة المال والحكومة والحزب الوطنى – وهو الحزب الحاكم فى مصر- ، فهذه المجموعة من الهاربين استخدموا حيلاً مختلفة من الهرب ، ومنها استخدام قوارب ولانشات إلى إيطاليا ثم إلى لندن ، لكن ممدوح إسماعيل مالك العبارة السلام التى راح ضحيتها أكثر من ألف شخص ـ هو الوحيد من هؤلاء الهاربين الذى استطاع الخروج من مصر بطريق مشروع عبر منفذ رسمى ، وذلك لأنه حتى وقت سفره وخروجه من مصر لم يكن قد صدر قرار بمنعه من السفر، ولم يكن قد صدر ضده حكم ، فخروجه كان بطريق مشروع وسافر من المطار بطريقة شرعية ولم يكن يستطيع أحد منعه من السفر، لعدم وجود قرار من النائب العام فى ذلك الوقت بإدراجه على قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد ، وصدر الحكم وهو موجود فى لندن .
كما برز إسم عماد الجلدة فى قائمة الهاربين، وهو عضو مجلس شعب عن دائرة شبراخيت ورئيس مجلس إدارة شركة الحصان والفارس العربى للإستيراد والتصدير، وأُتهم فى القضية رقم19220 جنايات المعادى، وعقب اتخاذ الإجراءات القانونية حياله ورفع الحصانة البرلمانية عنه تم ضبطه وأودع السجن ، على ذمة التحقيقات ، وأحيل إلى المحاكمة محبوساً حتي صدور حكم ضده وشركائه بالسجن ، فقام بالطعن بالنقض فى الحكم من محبسه ، والذى استخدم اللانش الخاص به للهرب.
يوسف عبد الرحمن، رئيس مجلس إدارة بنك التنمية والائتمان الزراعي سابقاً، أُتهم في القضية رقم1439 جنايات الدقى ، التى عرفت إعلامياً باسم قضية ” المبيدات المسرطنة “، وكانت التهم الموجهة، هى الإضرار بالمال العام والرشوة وبعد سجنه وإحالته إلى المحكمة صدر الحكم ضده وشريكته بالسجن ، فقام بالطعن بالنقض من محبسه وتم تحديد جلسة20 نوفمبر2008 لنظر الطعن وتم إخلاء سبيله، ولكن عندما استشعر بأن الحكم سيصدر بإدانته قام أيضاً بالهروب، وقد قضت المحكمة بالسجن المشدد لمدة عشر سنوات والعزل من الوظيفة وقد تبين من المعلومات أنه هرب بطريق غير مشروع إلى لندن، والأمر لا يختلف كثيراً عن شريكته ، راندا الشامى ، وهى مستشارة البورصة الزراعية ، التى اتهمت فى نفس القضية وتم الحكم عليها بالسجن المشدد سبع سنوات والعزل من الوظيفة، ولقد استطاعت أيضاً الهروب إلى لندن، التى يقيم فيها رامى لكح ، وأشرف السعد وعمر النشرتى وحاتم الهوارى وإيهاب طلعت ، إلى جانب عناصر من الإرهابيين المطلوبين ، الصادرة ضدهم أحكام بالسجن ، ومازالوا فى لندن .
لم تكن لندن هى العاصمة الوحيدة التى يتجمع بها العديد من الهاربين بل تتساوى معها كندا، حيث يوجد بها أكثر من خمسة عشر هارباً فى نفس الوقت ترفض تسليمهم لمصر لأنها أيضاً تستثمر أموالهم ، التى بلغت مليارات الدولارات بالإضافة إلى سويسرا والنمسا.
يعتبر رجل الأعمال المصرى الهارب نبيل البوشى ، آخر عنقود الهاربين من مصر، الذى اتهم بـ”النصب” والاستيلاء على أموال من الجمهور، بلغت قيمتها نحو 350 مليون جنيه “حوالى 63.1 مليون دولار أمريكى”، بمعاونة شريكه فكرى بدر الدين حمدى، رئيس مجلس إدارة شركة “أوبتيما” للسمسرة المالية .
كانت القيادة العامة لشرطة دبى قد أكدت فى بداية فبرايرالماضى ، أنها وجهت تهمتى “النصب” و”تحرير شيك بدون رصيد” إلى المصرى نبيل البوشي، مشيرة إلى أن سلطات المطار ألقت القبض عليه أثناء محاولته المغادرة إلى لندن، بعدما تبين أن شيكاً حرره لصالح سيدة إماراتية بمبلغ مليون درهم، بدون رصيد.
تنازل البوشى عن شقة وسيارة فاخرتين، كان يمتلكهما فى دبى إلى السيدة الإماراتية، إلا أن شرطة دبى ذكرت، فى بيان نشر بموقعها على شبكة الإنترنت، أن رجل أعمال مصرياً، تقدم ببلاغ آخر اتهم فيه البوشى بتحرير شيك بقيمة 5.12 مليون دولار له، تبين أيضاً أنه بدون رصيد، مما أدى إلى استمرار احتجازه.
أعلن النائب العام المصرى ، فى الثانى من فبراير أنه طلب من السلطات القضائية بدولة الإمارات تسليم البوشى ، إلا أن نائب القائد العام لشرطة دبى ، اللواء خميس مطر المزينة ، قال : ” إنه لن يتم تسليم البوشى لأى جهة ، إلا بعد الإنتهاء من القضايا الموجودة عليه فى دبى”.