– 20 مليون جنيه خسائر حريق واحد وتشريد 150 أسرة في كارثة الشرابية
– مسئولو الدفاع المدني: الأمن الصناعي في غيبوبة والإهمال المتهم الأول
– خبراء الاقتصاد يحذرون من التأثير السلبي للحرائق على معدلات النمو
سيناريو هزلي مؤسف يتكرر باستمرار، والنتيجة واحدة، ضحايا أبرياء، وإهدار ملايين الجنيهات، تتعالى التحذيرات، وتعلو الصيحات، ونصل إلى الأسباب، ولكن كأننا نؤذن في مالطة، فيتكرر الأمر من جديد و”كأنك يا أبو زيد ما غزيت”!.
مسلسل الحرائق أصبح مملاًّ ومستفزًّا، ونادرًا ما يخلو يوم من حريق جديد، يبحث عن ضحايا جدد ومنشآت مهمة يلتهمها، وكانت آخر حلقات هذا المسلسل- ولن تكون الأخيرة- هو استيقاظ المصريين على خبر حريق، وآخرها حريق مول “التوحيد والنور”؛ الذي بلغت خسائره المبدئية أكثر من 20 مليون جنيه، وحريق مخازن الأخشاب بمنطقة الشرابية بالقاهرة؛ أدى إلى تشريد 150 أسرة بعد التهام ألسنة اللهب “عزبة بلال” الموجودة فيها مخازن الأخشاب.
والسؤال الذي يطلُّ برأسه الآن: ما سبب تعدد الحرائق في مصر، وخاصةً في المنشآت المهمة، حكوميةً كانت أو خاصةً؟ وثائقيةً كانت أم صناعيةً؟ ومتى تنتهي حلقات هذا المسلسل السخيف؟ وما تأثير تلك الحرائق وخاصةً في المصانع على الاقتصاد القومي؟
نجيب عن هذه التساؤلات في التحقيق التالي:
بدايةً كشفت دراسة حديثة صادرة عن مركز الأمان النووي أن عدد الحرائق في مصر سنويًّا يصل إلى 20 ألف حريق تخلِّف وراءها أكثر من 230 قتيلاً و750 مصابًا.
وأشارت الدراسة التي أعدتها الدكتورة سامية رشاد إلى أن معظم الحرائق تقع في محافظتي القاهرة والجيزة؛ بسبب الزحام الشديد وتكدُّس المنازل والمحلات التجارية والمخازن بها.
وأكدت أن 50% من الحرائق بسبب الإهمال وتراخي العنصر البشري في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تلك الحرائق.
وحسب الدراسة فإن شهري يوليو وأغسطس هما أكثر شهور العام التي تقع فيهما الحرائق؛ وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة كما أن شهري مايو ويوليو وهما شهرا حصاد المحاصيل يقع فيهما عدد كبير من الحرائق؛ حيث تتعرض المحاصيل للاشتعال نتيجة الحر الشديد.
وربطت الدراسة بين الحرائق والجرد السنوي في المصالح الحكومية؛ حيث كشفت عن أن 48% من الحرائق المتعمَّدة تقع قبل مواعيد الجرد السنوي بشهرين.
توقف الأجهزة
وعلى صعيد الخبراء يقول اللواء نادر نعمان مدير الإدارة العامة للدفاع المدني سابقًا: إن انتشار الأنشطة الصناعية والتجارية المخالفة لشروط السلامة والدفاع المدني أصبح ظاهرةً تستدعي التوقف، فأجهزة الإطفاء اليدوية البسيطة التي يجب أن تكون موجودةً في كل مكان وبعدد مناسب؛ أصبحت غير متوافرة في كثير من المنشآت، وبالتالي فالحرائق ليست من صنع القدر، كما يحاول البعض أن يشيع، وإنما هي نتيجة الإهمال والتحايل على القوانين، بدايةً من التوسع في استخدام المعدات والأجهزة الكهربائية دون مراعاة تحمُّل الكابلات لشدة التيار أو الاستعانة بخبير متخصص للقيام بأعمال الكهرباء، وانتهاءً باختفاء اللوحات الإرشادية التي توضح مسارات ومخارج ومداخل رجال الإطفاء؛ مما يعوق عملهم ويعرِّضهم للخطر.
ويضيف أن بعض الهيئات والشركات الكبرى تقوم بتخزين مواد سريعة الاشتعال مثل الستائر والسجاجيد وغيرها من المستلزمات، دون مراعاة أية ضوابط، وكل ذلك يتم في غياب دور جادّ للأمن الصناعي الذي نعتبره صمام الأمان والمفروض أن يتولَّى مهمة التدريب والفحص والتفتيش الدوري على جميع الأنشطة للتأكد من سلامة المكان ومعداته وأدوات الإطفاء وأجهزة الإنذار؛ لذلك لا بد من وضع خطة واضحة للطوارئ بكل منشأة كبرى من خلالها يعرف كل شخص كيف ينصرف وقت وقوع الحادث لتقليل حجم الخسائر.
غياب التدريبويؤكد الدكتور محمد بكير استشاري الأمن الصناعي أنه للأسف بعض المنشآت قد تمتلك أحدث وسائل الإطفاء، ولكنها ليس لديها أشخاص مدرَّبون على التعامل مع هذه الوسائل؛ لأنها لا تهتم بتدريبات السلامة والصحة المهنية التي تؤهِّل بعض العاملين للتعامل مع الحرائق، فمثلاً في المصانع يجب أن يكون في كل وردية مجموعة من الحاصلين على أكثر من دورة لمقاومة الحرائق.
مضيفًا أن أي منشأة يجب أن تكون دائمًا على أهبة الاستعداد؛ تحسبًا لوقوع الكوارث، فمثلاً في أمريكا نجدهم كل فترة يقومون بما يسمَّى بالإنذار الكاذب، لكن عندنا للأسف وقت وقوع حريق قد نجد الطفَّايات فارغة والخراطيم غير صالحة للاستخدام والحنفيات غير كافية فنحن دائمًا ننتظر وقوع الكارثة ثم نبدأ في التحرك.
ويضيف د. بكير أن الوقاية أهم من العلاج، وهو ما ينطبق تمامًا في مجال الأمن الصناعي، فالوقاية يمكن أن تمنع أكثر من 90% من الحرائق، ولكن ينقصنا الوعي بكيفية تحقيق ذلك، رغم أنه منذ نهاية الثمانينيات تم إدراج الحرائق ضمن خطة البحوث والدراسات في أكاديمية البحث العلمي وكانت أهم النتائج التي تم التوصل إليها ضرورة وضع كود عام للمنشآت يضمن المعايير الأساسية للأمان، ويتم تحديثه وفقًا للمستجدات التي تفرضها الحرائق ونتائجها.
ويستطرد قائلاً: الدراسات صنَّفت الحرائق وفقًا لدرجة خطورتها وأساليب مواجهتها، وجاءت في المقدمة المنشآت التجارية والثقافية والترفيهية ثم حوادث الأبراج السكنية، مؤكدًا أن المصانع تقع في مقدمة المنشآت التي يجب الاهتمام باحتياطيات الأمان والوقاية الخاصة بالحرائق بها، وأهمها ضرورة دفن الكابلات الكهربائية بدقة تحت الأرض، ووضع لوحات الكهرباء الرئيسية داخل دواليب مثبتة على الحوائط، ولا بد من وجود وسيلة فصل أتوماتيكية لجميع لوحات الكهرباء.
المتهم الأول
ويؤكد مصدر مسئول بإدارة الدفاع المدني أن معظم مشاكل الحرائق وحوادثه، سواءٌ بالمؤسسات أو حتى بالمنازل يرجع لعدم الوعي أو الحرص على تحقيق الأمن للمنشأة وعدم تغيير طفايات الحريق إلا بعد حدوث كارثة فيكتشف أنها فقدت صلاحيتها بعد 5 سنوات من استخدامها لأنه لم يتم عمل مرور دوري عليها، كما أن زيادة الأحمال على الكابلات الكهربائية والتوصيلات داخل المنشأة تعد أحد أسباب الماس الكهربائي الذي يؤدي إلى كثير من الحرائق، بالإضافة إلى التشغيل غير السليم للأجهزة الكهربائية لساعات طويلة دون منحها فترات راحة؛ مما يؤدي إلى اندلاع الحرائق.
وأضاف المسئول للأسف كثيرًا من المنشآت والمصانع تفتقد الأمن الصناعي بمعناه الحقيقي والإجراءات المتخذة في هذا الإطار لا تتعدى الشكليات التي تهدف إلى الحصول على الترخيص من الجهات الرقابية التي تقوم بالتفتيش على وسائل التأمين والسلامة دون إدراك حقيقي لأهمية توافر أدوات الأمن الصناعي وكذلك الأفراد المؤهلون والمدربون على استخدام تلك الأدوات.
ولمواجهة تكرار هذه الحرائق يقول مسئول الدفاع المدني لا بد من الاهتمام بتدريب جميع العاملين بالمنشآت على كيفية مواجهة الحرائق، وكذلك الأفراد العاديون يجب تدريبهم أيضًا حتى يمكنهم التصرف بشكل سريع قد يؤدي لإخماد الحريق أو حتى على الأقل التخفيف من آثاره المادية والبشرية؛ لأن مواجهة الحريق في بدايته أسهل كثيرًا من المواجهة بعد فوات الأوان.
كذلك لا بد من أن تحرص المنشآت الصناعية المختلفة على توفير أنظمة الإنذار المبكر للحريق، ووجود وسائل المراقبة بالفيديو وتخطيط المبنى وفقًا لاحتياجات الأمان وتزويد أفراد الأمن بأجهزة لا سلكية حتى يسهل عليهم التحرك وسرعة الإبلاغ عن الحريق.
خسائر ضخمة
وعن الآثار السلبية من اندلاع الحرائق على الاقتصاد القومي يقول الدكتور عبد المطلب عبد الحميد رئيس مركز البحوث الاقتصادية بأكاديمية السادات إن الخسائر كثيرة للغاية، فبدلاً من زيادة الناتج القومي وتشجيع الاستثمار ورؤوس الأموال على فتح مجالات للعمل يحدث العكس، تشتعل الحرائق لتدمر الإمكانيات والموارد المتاحة وتهدد الطاقات وتبدو الثروات الطبيعية والبشرية التي من الصعب تقدير حجم أو قيمة الخسائر التي ترتبت عليها، فلا توجد أرقام أو دراسات تشير بدقة إلى النسب الحقيقية لكنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مليارات الجنيهات.
ويضيف أستاذ الاقتصاد: ما يحدث هو دمار شامل للتكنولوجيا والأجهزة والمعدات ومستلزمات الإنتاج والسلع، وبالتالي انتقاص للمدَّخرات القومية يترتب عليه زيادة عجز الميزان التجاري وزيادة في معدلات الاستيراد ونقص التصدير، إضافةً إلى انتشار البطالة؛ لذا لا بد من البحث عن وسائل أكثر حزمًا وأمانًا؛ حتى لا يتحول المناخ الاقتصادي إلى مناخ طارد للاستثمار نتيجة التراخي وعدم الوعي.
ويؤكد الخبير الاقتصادي أن من الآثار السلبية الخطيرة للحرائق تدمير أصول مبانٍ وآلات وأجهزة يحتاج إعادة إنشائها إلى تكلفة مضاعفة بالأسعار الحالية، كما أنها قد تؤدي إلى احتراق مستندات أو أوراق مما يترتب عليه ضياع حقوق اقتصادية للجهات التي حدث فيها الحريق، بالإضافة إلى توقف العمل حتى يتم القضاء على الحريق، كذلك فإنه في حال المنشآت المؤمَّن عليها تضاف أعباء على شركات التأمين القومية التي تضطر إلى وضع التعويضات عن هذه الخسائر.
ضياع الحقوق
ويؤكد الدكتور رفعت العوضي أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر أن الخسائر ضخمة للغاية؛ فبدلاً من زيادة الناتج القومي يحدث العكس وتشتعل الحرائق لتدمير الإمكانات والموارد المتاحة وتهدَّد الطاقات وتتبدد الثروات الطبيعية والبشرية، موضحًا أنه من الصعب تقدير حجم أو قيمة الخسائر التي تترتب عليها؛ فلا توجد أرقام أو دراسات تشير بدقة إلى الخسائر الحقيقية، ولكنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مليارات الجنيهات، على حد قوله.
ويضيف أن الحرائق تسبب دمارًا شاملاً للتكنولوجيا والأجهزة والمعدات ومستلزمات الإنتاج والسلع؛ مما يترتب عليه زيادة عجز الميزان التجاري وزيادة معدلات الاستيراد أو تراجع التصدير وانتشار البطالة؛ لذلك لا بد من البحث عن وسائل أكثر أمانًا حتى لا يتحول المناخ الاقتصادي إلى مناخ طارد للاستثمار نتيجة التراخي وعدم الوعي
ويشير إلى أن الآثار السلبية للحرائق على الاقتصاد القومي تتجاوز تدمير المباني والآلات إلى احتراق مستندات وأوراق؛ مما يترتب عليه ضياع حقوق اقتصادية للجهات التي حدث بها الحريق.
معدلات النمو
ويتفق الدكتور حسن عبد الفضيل الخبير الاقتصادي مع الرأي السابق حيال الآثار السلبية لمثل هذه الحوادث على مناخ الاستثمار، خاصةً أن المستثمر الأجنبي يسعى دائمًا إلى توافر بيئة آمنة يدير من خلالها استثماراته، بينما تحظى بعض دول المنطقة بفرص أفضل في استقطاب الاستثمارات الخارجية؛ نظرًا لتوافر مستوى أعلى من الأمان للاستثمارات.
ويوضح الدكتور عبد الفضيل أن تراكم تلك الحوادث يؤثر بشكل فعلي على معدلات النمو الاقتصادي، والتي قد يصعب التكهن بها، مضيفًا أن السبب الرئيسي وراء تلك الحوادث يرجع إلى تفشي الإهمال نظرًا لعدم اتباع الأساليب الحديثة في تأمين وحماية المنشآت.
نصيحة
وينصح دكتور نادر رياض مستشار لجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشعب بضرورة احترام أكواد حماية المنشآت ضد أخطار الحرائق، كما يجب على الدولة ممثلةً في الهيئات المختلفة أن تؤمن على هذه المنشآت تأمينًا ضد الحرائق والسطو والمسئولية المدنية، وضرورة توفير معدات ووسائل إدارة التعامل مع الأخطار، والتي توفرها العديد من شركات التأمين من خلال بنود عقد التأمين.
كما يطالب بضرورة إنشاء إدارة مركزية للحريق والدفاع المدني داخل المنشآت؛ مهمتها التفتيش والمراجعة وتطبيق أكواد الحريق في مختلف المؤسسات والهيئات وغيرها بما يكفل مقاومة الحريق وعدم السماح باستعمال لهب مكشوف وتوفير أجهزة الإطفاء بالعدد اللازم والكافي علي أن تتطابق هذه الأجهزة مع المواصفات المحلية والعالمية، وكذلك ضرورة تحرير عقود صيانة مع الجهة المنتجة لتلك الأجهزة حتى لا تتجزأ المسئولية بين جهة الصنع وجهة الصيانة.