الفساد في طبقات المجتمع الراقية وغير الراقية وفي الدولة
شهد المجتمع المصري في السنوات الأخيرة حالة فساد لم يمر بها من قبل وما أكدته النتائج والمؤشرات أن الفساد لم يكن قاصراً على فئة معينة، وأن العوامل الاقتصادية ليست هي المؤثرة فقط على هذه الحالة التي أصبحت ظاهرة في المجتمع المصري لا يستطيع أحد التغاضي عنها أو إنكارها.
ويتساءل المهتمون بهذا المجتمع والباحثون في شؤونه الاجتماعية والتحليلية كيف ينهض بعد انتشار الأوبئة الاجتماعية بداخله والتي ظهرت في طبقات من الواجب عليها حمايته؟
كل ما يسعى إليه الباحثون هو تحليل تأثير أفعال أصحاب المراكز المرموقة على الشباب الذين يفتقدون القدوة ويتحول المجتمع المصري على أيديهم إلى غابة البقاء فيها للأقوى، ولا مجال للضعيف؛ فيسعى المجتمع بجميع فئاته للقوة بأي شكل، ومعظم الأفراد يعتقدون الآن أن القوة تكمن في المال الذي يستطيع من خلاله الفرد أن يصبح ملكاً، وقدوته في ذلك كبار المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم الوزراء يليهم بعض الفئات التي تتدرج في مستواها، ضاربين عرض الحائط بالقوانين، فكل ما يشغل تفكيرهم هو الحصول على أكبر قدر من المال قبل زوال المنصب وكأنهم سعوا إلى المناصب من أجل مصالحهم الشخصية.
وزراء في ساحات القضاء وفي ليمان طرة
أكد علماء النفس أن صاحب المنصب الذي يسعى للحصول على رشوة هو شخص مهزوز لديه رغبة قوية في التملك ويعشق السيطرة وسلب حقوق الآخرين، وأن وجوده بمنصبه يمثل خطرا على المجتمع وعلى استقراره. فالوزير الذي يحصل على رشوة لتسهيل مهام غير قانونية، هو لص متخف في كرسي الوزارة، يسلك طرقاً أخرى للسرقة بشكل يناسب برستيجه الخاص ضارباً عرض الحائط بالقانون، وبمن هو مسؤول عن حماية مصالحهم لا نهب أموالهم.
والغريب في الأمر أن المجتمع المصري لم يهتم- في قضايا الرشوة- بالمبالغ ولا بالأضرارالتي قد تلحق به، قدر اهتمامه وتركيزه على الشخصية التي أصابته بالدهشة. ويتساءل المواطنون عن الكيفية التي يقضي بها المسؤول المرتشي يومه داخل السجن. ولم تظهر مثل هذه الأسئلة إلا مؤخراً لأن فساد المسؤولين ظاهرة مستحدثة على المجتمع المصري لم يشهدها إلا في سنواته الأخيرة، بداية من نجمها الأول الذي ترك كرسي وزارة المالية ليصبح نزيلاً بسجن ليمان طرة، وهو “محي الدين الغريب” وزير المالية الأسبق المتهم في قضية الجمارك الكبرى، وكانت نهايته بحكم رادع صدر ضده، حيث أصدرت المحكمة حكماً ضده بالسجن عشر سنوات وأصبح شأنه شأن باقي المتهمين الموجودين خلف القضبان، وضع نفسه ومكانته في وضع سيىء للغاية.
وكما ذكر بعض الشباب: قدوتنا خلف السجون ومستقبلنا غير مضمون ولا نعلم إلى أين نحن ذاهبون. فإن الأثر الناتج عن هذه الجريمة ليس مقتصراً على المتهم فحسب بل على المجتمع كله، ليس لأن الأضواء مسلطة عليهم وإنما لأنهم عماد هذا المجتمع وقدوته. إذ كيف لأحد أن يدار بواسطة فاسد؟ كيف يكون المصير الذي ينتظر هذا المجتمع؟ الإجابة يحصدها المجتمع الآن كما أكدت المؤشرات من قبل تدني المستوى الاجتماعي والمادي والأخلاقى، وبدأ المجتمع في السعي نحو الأسوأ، يجني أفراده الآن ثمار أخطاء مسؤوليه الذين تقلدوا مناصبهم بعيداً عنه، فهو مجتمع ليس له الحق في اختيار من يحكمه. فالديمقراطية وحق اختيار المسؤولين قاصرة على قرار فردي يتخذه رئيس الجمهورية بعيداً عن شعبه. ولكن الأخطاء ثمارُ المجتمع مجبر على تحملها، كما أكد بعض المحللين لظواهر الفساد الذي تفشي في المجتمع المصري مؤخراً. وذهب البعض منهم إلى القول بأن هذا المجتمع في حاجة لاقتلاعه من جذوره.
الفاجعة الثانية كانت في صاحب المركز المرموق ماهر الجندي محافظ الجيزة الأسبق الذي تقلد العديد من المناصب، حيث كان محافظاً للغربية وبعدها الجيزة وكان الجندي يشغل منصب المحامي العام الأول المصري، وهو من أرقى المناصب القضائية في مصر، وكانت تهمته أيضاً الحصول على رشوة بلغت حوالي مليون جنيه مقابل تسهيل الاستيلاء على المال العام والإخلال بوظيفته كمحافظ ووزير، حيث أنهى إجراءات بيع قطعة أرض من أملاك الدولة مساحتها130 فدانًا بطريق القاهرة الأسكندرية الصحراوي. وبعد تداول القضية في ساحات المحاكم صدر حكم ضده بالسجن لمدة سبع سنوات مع الشغل والنفاذ.
ومن الجندي إلى “توفيق عبده إسماعيل” وزير السياحة الأسبق الذي سبق الجندي في الفساد الأخلاقي وكان نجم الصحف في قضية أموال عامة معروفة باسم قضية ” نواب القروض” والتي ساعد فيها توفيق عددًا من رجال الأعمال في الحصول على قروض من البنوك بدون ضمانات، وسهّل لبعضهم الاستيلاء على أكثر من مليار جنيه من المال العام. “توفيق عبده” كان أول وزير مصري يلقى به في السجن منذ عقود، وصدر حكم ضده بالحبس عشر سنوات وطعن على الحكم، ولكن الأهم من ذلك كله هو أنه نفّذ الحكم وقضي فترة في السجن حتى لو لم تتجاوز عدة أشهر.
موقف الرأي العام من هؤلاء الوزراء
الصدمة كانت أقوى من الفعل الذي ارتكبه هؤلاء، لأنهم وجهاء المجتمع في أعين البسطاء منه وفئاته الكادحة التي تفترض أن هؤلاء مدافعون عن حقوقهم، فعندما تختل هذه النظرة، يختل توازن المجتمع وتهيمن عليه فكرة “البقاء للأقوى”.
وهذا ما أكدته السنوات القليلة الماضية التي شهدت جرائم رشوة بين الموظفين الأقل في تدرجهم الوظيفي اقتداءً بالكبار الذين سبقوهم. وقيل إنهم يرددون كلمة واحدة، هي أنهم ليسوا أفضل من الوزراء المرتشين ولا أغنى منهم. أصبح الأفراد يبحثون عن القدوة الفاسدة أكثر من غيرها؛ لانتشار الفساد بين الأغنياء الذين يعتبرهم الفقراء أصحاب حصانة في مناصبهم، ومع ذلك يسعون وراء المال مؤكدين بهذه الأفعال والتصرفات أن السلطة بحاجة إلى مال، ومؤكدين أيضاً النظرية الحديثة التي انتشرت مؤخراً حول أن الفقراء سيصبحون أكثر فقراً والأغنياء أكثر غنى؛ لذلك يلهثون كما يؤكد علماء النفس نحو تحقيق مزيد من الثراء تاركين المجتمع خلفهم وكل ما يشغلهم مصلحتهم الفردية بعيداً عن واجبات المنصب التي تفرض عليهم تأمين مصالح الفقراء وليس نهبهم كما يحدث على أرض الواقع الآن.
رجال القضاء ودورهم في الفساد الاجتماعي
رجال القضاء من الفئات المفترض أنها تحافظ على استقرار العدل والقضاء على الفساد بأحكامهم الرادعة التي لا تفرق بين غني أو فقير، وتقف في صف القانون لا تحيد عنه؛ أملاً في أن يصل المجتمع للوضع الذي يحقق توازنه. ولكن الآونة الأخيرة شهدت خللاً في المنظومة القضائية بمصر، ولأول مرة تشهد البلاد ظاهرة أن يصبح المستشار شخصًا مرتشيًا، وأن يوضع في قفص الاتهام ينتظر حكماً عليه بالسجن. ووجدنا ساحات المحاكم وصفحات الجرائد تكتب عن القضاة المرتشين الذين باعوا ضمائرهم وأمانتهم مقابل مبلغ من المال.
وتشير النتائج التي توصل إليها المحللون إلى أن ذلك الأمر ناتج عن الثقافة التي سادت المجتمع في الفترة الأخيرة وهي وضع المصلحة الاقتصادية فوق كل اعتبار. ولكن السؤال الذي يتردد على ألسنة أفراد المجتمع بعد القبض على أحد القضاة، متهمًا في جريمة رشوة شأنه شأن الجاهلين بأحكام القانون وحقوق المجتمع وواجباته، هو ما الدافع وراء ذلك؟ وكيف سيتمكن من إصدار أحكام ضد المذنبين بعد أن أصبح واحداً منهم؟ هل الدافع وراء ذلك هو المال فقط أم أن هناك أشياء خفية وراء ذلك الفساد؟
الغريب في الأمر أن معظم القضايا التي أصبح فيها بعض القضاة متهمين هي الرشوة ولم يتم اتهام أحد في جريمة أخرى. ومن القضايا التي شهدها المجتمع مؤخراً في ساحات القضاء رشوة المستشار الحسيني الذي كان رئيساً للدائرة 38 جنايات القاهرة بمحكمة باب الخلق، والذي صدر ضده نهاية العام الماضي حكم بالسجن لمدة 7 سنوات بعد أن كان حكم بالبراءة صدر لصالحه مرتين، وذلك بعد أن وجهت له نيابة الأموال العامة تهمة الحصول على رشوة والتربح من عمله باتفاقه مع باقي المتهمين في نفس القضية على أن يصدر أحكامًا قضائية في صالحهم وان يعاونهم في قضايا تهرب ضريبي بحقهم بلغت قيمتها 30 مليون جنيه، حصل منها على مليون جنيه لنفسه، وهدايا عينية أخرى تمثلت في سيارات وعقارات وذهب وأجهزة كهربائية.
ومن المستشار الحسيني إلى آخرين صدرت ضدهم أحكاماً بالسجن لمدد تتراوح ما بين 3 و7 سنوات من محكمة أمن الدولة، وهم “عبد الناصر محمد نجم الدين” رئيس محكمة جنح النزهة و”صلاح يوسف مهران” رئيس محكمة جنح مصر الجديدة و”علاء مأمون” رئيس محكمة بشمال القاهرة الابتدائية. وهذه الأحكام صدرت بحقهم بعد أن وجهت إليهم نيابة الأموال العامة تهمة الحصول على رشوة. لم تكن مثل هذه القضايا موجودة وخاصة تلك المتعلقة بالقضاة، الفئة التي حملت على عاتقها تطبيق العدل بالقانون وليس التضليل بالمنصب أو الاستقواء والانتفاع منه على حساب أفراد بحاجة لمن يبحث لهم عن حقوقهم الضائعة. ولم يكن الدافع المادي هو الأساس في إقدام القضاة على الرشوة، وإنما هناك عوامل أخرى أوردها المحللون، مثل البيئة التي نشأ فيها القاضي، والحرمان الذي بدأ يشعر بضرورة أن يشبعه، والعديد من الأسباب الأخرى إلى جانب المادة.
الحل للقضاء على فساد رجال القضاء
اتبعت الدولة مؤخراً شروطًا نوعية تجب مراعاتها عند اختيار رجال القضاء ووكلاء النيابة؛ لتجنب مثل هذه الظواهر وللحفاظ على هيبة القضاء المصري. والمشكلة أن ما يدين القضاة مؤخراً هو جزء يتعلق بالضمير والأخلاق والمادة، فالرشوة شوكة في ظهر القضاء ولابد من حمايته من آثارها والمرور بسلام حتى يتم القضاء نهائياً على الفساد، واتجهت الدولة نحو القضاة في محاولة منها لإنهاء مشاكلهم المادية ومناقشة رواتبهم وإزالة العقبات التي تدفع بالقاضي لأن يصبح مرتشيًا. وهذه وسيلة لجأت إليها الدولة لتخفيف حدة الفساد الذي عجزت عن ملاحقته بعد أن انتشر كوباء في طبقات المجتمع بغض النظر عن المستويات الاجتماعية التي ينتمي إليها الأشخاص المرتشون
رجال إعلام ومشاهير مرتشون
وكان لرجال الإعلام الذين يعتبرهم المجتمع نقطة الضوء التي تنير ظلام حياتهم دور بارز في قضايا الرشوة، حيث وقع بعضهم متهماً بها أو بتسهيل الحصول عليها. والمعهود أنهم يلقون الضوء على الأخطاء التي وقعوا فيها مثل أفراد المجتمع، ولكنهم في نظر هذا المجتمع الفئة التي تضع أياديها على آلامه وأمراضه بتسليط الضوء عليها. وكان قرار النائب العام بإحالة المذيعة التليفزيونية “أماني أبوخزيم” التي كانت تشغل منصب كبيرة المذيعات في التليفزيون المصري إلى محكمة الجنايات بتهمة الرشوة والتربح من وظيفتها والاستيلاء على المال العام صدمة ثالثة للمجتمع الذي أصبح يندهش للوهلة الأولى، وبعدها يستوعب الأمر الذي أصبح متكرراً من أشخاص لم يتوقع المواطنون أن يروهم في قفص الاتهام وصدر الحكم ضدها بالحبث لمدة ثمان سنوات تم تخفيفها بعد الطعن على الحكم. لم تكن أماني هي الإعلامية المرتشية الوحيدة، ولكنها مجرد مثال هنا من أرض الواقع المصري الذي امتلأ بالمرتشين الذين أصبح عددهم في حالة زيادة مستمرة.
رجال البرلمان وموقعهم من الفساد والرشوة
يؤكد أفراد المجتمع على أن الفساد في البرلمان وبين رجال الحصانة يتحدث عن نفسه، وليس بحاجة لمن يتحدث عنه، فهذه الفئة اتخذت من الحصانة التي حصلت عليها من أجل حماية الأفراد وسيلة لحماية مصالحهم الشخصية ولتنمية ثرواتهم وملء بطونهم.
كان هاني سرور هو آخر المتهمين من أعضاء مجلس الشعب في قضية تمس أمن المجتمع ويوسف عبدالرحمن وكيل وزارة الزراعة الأسبق وعبدالله طايل رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشعب سابقاً، أسماء برزت مؤخرا في عالم الفساد والرشوة، بدلا من ان يبرزوا في الدفاع عن مصالح الفقراء الذين انتخبوهم ليصبحوا هم أول من أضاعوا حقوقهم وعقدوا صفقات على دمائهم قبل عظامهم.
عماد الجلدة الرئيس السابق لمجلس إدارة شركة “أليكس أويل” دفع رشوة للحصول على معلومات سوف يستغلها ليحصل على الأموال التي سوف ينفقها على شركات التنقيب بالأماكن التي من المحتمل وجود بترول فيها بالصحراء الغربية والمناطق المطلة على البحر الأحمر. وفي قضية المبيدات المسرطنة التي دخلت مصر للحصول على أموال من وراء الصفقة وقف يوسف عبد الرحمن في قفص الاتهام، وفي الوقت نفسه كان حسام أبو الفتوح يقف داخل القفص في قضية الاستيلاء على أموال من البنك، وامتناعه عن رد الفوائد، ولكنه المتهم الوحيد الذي حصل العام الماضي على البراءة من التهمة المنسوبة إليه. وعبدالله طايل عضو مجلس الشعب، وغيرهم نماذج كثيرة، كشفوا الغمام عن أغراضهم من الحصانة التي مكنتهم من السير في طريق المجد والشهرة من أجل أن يصبحوا لصوصاً كبارًا.
متى وكيف ينتهي هذا الفساد؟
يتساءل أغنياء هذا المجتمع قبل فقرائه سؤالا مهمًّا، كيف نواجه هذا الفساد الذي انتشر خصوصًا في الفئات المسئولة عن ملاحقة الفاسدين؟ هل يرضخون للأمر الواقع، ليُقضي على آمالهم وطموحات أبنائهم؟ فالمجتمع المصري شهد في ساحات المحاكم أكبر عدد من قضايا الفساد في فترات متلاحقة، تم ردع البعض بالحكم عليهم فعليا، وتمكن البعض من ذوي النفوذ للمرة الثانية من الفرار من تنفيذ الأحكام الصادرة ضدهم بالهرب إلى خارج البلاد.
والسؤال الموجة في النهاية للمسؤولين عن هذا المجتمع إذا كان الفساد أصبح بهذا الحجم بين الفئات الاجتماعية المتميزة، فماذا نتوقع من المستويات الأقل؟ وهل المجتمع مذنب عندما يُحاكم شخصًا سرق ليأكل فيما شخص آخر يسرق ويرتشي لتزداد ثروته ملايين فوق الملايين السابقة؟ سؤال لا يساعد أو يساند السارق والمرتشي، ولكن طرحه الموظفون الذين يحصلون على رواتب زهيدة، ويصعقون حيت يذكر الاإعلام المبالغ الضخمة التي حصل عليها المرتشون من استغلال مناصبهم. وكيف ينعم هؤلاء البسطاء وهم يشعرون بالظلم مرتين، مرة من المسؤولين وأخلاى من الفئات التي اتخذت الفساد سبيلاً.