القاهرة عند منتصف ليل الخميس الماضى
عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة مساءً
كعادتها تعج بالحيوية و النشاط ، الحركة تدب فى كل اتجاه
و يتواصل المشهد اليومي من قاهرة المعز
حيث ساحاتها المترامية .. و ميادينها الفسيحة .. و مآذنها العالية
و مناطق التجوال المنتشرة فى كل أنحاء العاصمة
روح من الحياه المثيرة تدب عند كوبرى قصر النيل .. و يترامى الأحبة ,,
و الأسر التى خرجت لتستنشق عبير الهواء القادم مع رياح النيل الآخاذة ..
مواطنون بسطاء ،
و شيوخ كبار .. رجال و سيدات .. أطفال و شباب ..
يواصلون سيرهم فى مختلف الإتجاهات فى حركة دائرية و متسارعة .. كل فى مساره ..
فهذا سائق تاكسي يقطع شوارع القاهرة و ميادينها .. ذهاباً و إياباً .. و ذلك بائع متجول .. أثر أن يسهر الليل باحثاً عن رزق أولاده .. وسط حياه أصبحت ضروراتها الملحة تفرض عليه و على أمثاله أن يواصلوا الليل بالنهار .. كى يوفروا لقيمات خبز جافة لأطفالهم
– هكذا فى الحياه فى القاهرة .. تأخذ دورتها .. و كأنها ترس فى ماكينة .. تواصل سيرها عبر الأفق اليومى الشاسع .. لترسم للواقع صورة مكررة من نمط حياتى أدمنته القاهرة .. تلك العاصمة الفريدة بين عواصم الدنيا .
و عند القلب ..
وفى منطقة وسط العاصمة ..
وعلى بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير أشهر ميادين مصر و أكبرها .
وعلى بعد دقائق من الأزهر الشريف ..
ومن أضرحة سيدنا الحسين
والسيدة زينب ،
و السيدة عائشة ،
و السيدة نفيسة ( رضى الله عنهم جميعاً )
* كان واقع آخر يتشكل فى هذه اللحظات .. ليرسم صورة مغايرة .. و يضع فوق وجه القاهرة السمح و قلبها المؤمن .. و عقلها الفريد .. ملامح جديدة و غريبة .. و مثيرة
ففى أحد الفنادق فى القاهرة الكبرى
والتى تعج بحياه حافلة على مدار الأيام .. و بشكل أكثر خصوصاً فى ليلة الخميس ..
كان فندق هيلتون رمسيس ..
يعيش لحظات فريدة .. و استثنائية .. فقد تزين الفندق .. و تجمل .. لا ليستقبل احتفالاً بمناسبة عادية .. أو بزفاف خاص .. أو ببهجة كتلك التى تحياها قاعاته كل ليلة .. بل كان الجو المحيط يُوحى بشئ غريب … لم تعتده الأعين .. و لم تلمسه العقول .. و لم يخطر على عقل بشر .
انتشرت الزهور .. و الورود .. و أُطلق البخور .. و استعدت فرق الرقص و الغناء .. لتنشد نغمات جديدة .. على وقع أهازيج .. تتمايل رياحينها هذه المرة بشكل لم تشهده مصر منذ حباها الله بدين الإسلام و المسيحية ..
فعند الثانية عشرة مساءً بالتمام و الكمال ..
كانت إحدى قاعات فندق هيلتون رمسيس
تشهد حفل زفاف هو الأول من نوعه فى بلد الأزهر الشريف ..
و قف الجميع مشدوهين . و هم يشهدون ( رجلين ) يترجلان من سيارة فخمة .. مزينة بالورود و الزينة .. توقفت عند باب الفندق ليهبطا منها .. و فى لحظات كان الرجلان يتأبطان بعضهما بعضاً و يتقدمان وسط فرقة الموسيقى التى راحت تزفهما فى مشهد غريب .. أثار كل الموجودين داخل الفندق .. و فى قاعات استقباله .. و فى ردهاته الرئيسية .
توجه ( الرجلان ) بخطوات وئيدة إلى حيث موقع الإحتفال بهما … فى حفل الزفاف الذى تقرر فى تلك الليلة الغريبة ..
رجال و نساء جاءوا ليجلسوا فى مناضد متفرقة .. ( رجلان معاً ) .
أو سيدتان معاً .. فقد كان المشهد غريباً و مثيراً .. و راح من يشهدون ما يجرى يفتحون أعينهم . غير مصدقين ما يحدث امامهم ..
و ما هى إلا لحظات حتى دلف العروسان ( الرجلان ) إلى داخل القاعة .. تستبقهما أصوات زاعقة .. فيما راحا يتبادلان ابتسامات الإعجاب و الحب .. فى مشهد بدأ فيه كلاهما .. سعيداً متباهياً . و كأنه يُزف إلى الدنيا كلها
راح من شهدوا هذا الموقف الغريب .. يتساءلون عن هذا الذى يحدث !! ..
و راح آخرون يضربون كفاً بكف ..
و راح من شاء حظهم أن يتواجدوا مصادفة فى المكان يلعنون ما يشهدونه ..
و هم يرددون ( نستغفر الله العظيم .. من كل ذنب عظيم ) ..
و حين تنامت الأسئلة و تصاعدت عن
جنسية هذين اللذين أقدما على هذه الفعلة المرذولة و الغريبة على المجتمع المصري و التى تجرى على أرض قاهرة المعز ؟..
جاء الجواب على لسان بعض الحضور ( إنهم كوايته ) ..
رفض المجتمع الكويتى و الدولة هناك أن يسمحا لهما بهذا الزفاف ..
و لكن مصر رحبت ..
و فتحت لهما الأبواب ليكونا أول زوجين – رجلين
( يتزوجان بعضهما البعض على أرض مصر ).
* كان الجواب كالصدمة التى أصابت من تواجدوا مصادفة و من راحوا يرقبون مجريات ما يحدث .. و الغيظ يأكلهم .. و قلوبهم تتمزق .. و راحوا يسألون أنفسهم عن هذا الهوان .. و الإجتراء على الدين .. و تجاوز المقدسات .. و السماح بالمحرمات فى بلد الأزهر الشريف .. الذى تجرى على أرضه وقائع زفاف اثنين من الشواذ .
كان المشهد درامياً .. ففى منتصف القاعة
جلس العروسان .. الذكران ( الرجلان ) على كرسيين متجاورين ..
تحيط بهما الزهور من كل اتجاه
بينما راحت أصوات الموسيقى الحالمة تصدح فى أروقة القاعة ..
لتبعث بالراحة فى الآذان .
كان الزوج – أو من أُطلق عليه هذا اللفظ .. ممتلئ الجسد .. ضخم الملامح .. و كان شعره يتدلى على ظهره و كأنه شعر فتاه .. أرادت أن تطلق شعرها لجذب مفاتنها للناظرين .. أما الآخر الذى اُطلق عليه الزوجة فكان ذا قوام نحيف .. رشيق بعض الشئ .. و إن كان شعره أقل من شعر الزوج ، كان الجميع يراقب نظراتهما . و ابتساماتهما .. و مغازلاتهما لبعضهما البعض .. كانا يتهامسان .. ثم تكسو وجهيهما ضحكة عريضة .. و فى مشهد لا يخلو من دلالات .. راح كل منهما ينظر إلى الحاضرين .. و يوزع ابتساماته عليهما ..
صوت الموسيقى يعلو .. و الجو يزداد سخونة .. أغان خليجية … و أخرى أجنبية .. يتردد صداها فى أجواء القاعة .. يدعو منسق الفرقة الموسيقية العروسين .. الرجلين .. للتقدم إلى منتصف الصالة .. و على انغام الموسيقات المختلفة .. الصاخب منها .. و الكلاسيكى الهادئ .. راح كلاهما يستعرض مفاتنه فى وصلات راقصة .. لم تخل من إيحاءات بعينها .. حتى أن الرجل العروس كان يرقص و كأنه ينافس أشهر الراقصات … أما ( العريس ) ضخم الجثة فكان يهز جسده بالكاد … و يسعى قدر جهده لتوفير طاقته لاستخدامها فى الوقت و اللحظة المناسبتين .. فبعد ساعات قليلة سوف يكون على موعد مع ليلة العمر .
وحين راح ( العروسان الرجلان ) يواصلان وصلات الرقص على مختلف الموسيقات … اندفع العديد من الشباب الخليجى إلى قلب القاعة .. يتمايلون و يرقصون .. و يرددون أغانى شاذة . و نشازاً ، و كانت اشكالهم جميعاً و ملامحهم تكشف عن طبيعتهم و تركيبتهم .. و كانت نظراتهم تحمل من الإيحاءات .. ما يتجاوز حدود الكلام .
* هكذا استمرت الرقصات الشبابية لأكثر من نصف ساعة .. وسط حالة من الفرح و البهجة الغريبة .. و فى لقطة درامية راح العريس يحكى وقائع قصة العشق و الوله التى ربطته بمحبوبه و عروسه الرجل .. نظر إلى الحضور .. و أمسك بسماعة الحضور ليروى .. بإثارة و تشويق وقائع الغرام الذى ربط بين قلبه و قلب الرجل الذى أحبه منذ سنوات طوال .. قائلاً إنه صعد فى مواجهة كل الضغوط التى تعرض لها .. لكى يظفر بمحبوبه .. و عشقه الأول فى الحياه .. و راح يحكى بألم عن بلده و أهله فى الكويت الذين ضنوا عليه بالحنان .. و رفضوا أن يسمحوا له بإقامة حفل زفافه من حبيبه على أرض بلاده .. مُبدياً تأثره الشديد بهذا الموقف غير المبرر – حسب وصفه – و لكنه يحمد الله أن مصر .. الكبيرة .. و الحنونة قد فتحت له ذراعيها .. و قبلت أن يُقام حفل زفافه على حبيبه فوق أرضها .. و من هنا فقد قرر أن يأتى و يحتفل بزفافه فى مصر أرض الأهرامات و التاريخ و الحضارة .. ليستمتع هو و حبيبه بشهر العسل على ضفاف النيل الخالد .. ليعيش لحظات السحر المصرى فوق ربوع هذا البلد الذى فتح لهما ذراعيه .. و احتضنهما .. بعد أن تجاهلهما أهلهما هناك فى الخليج .
و بعد وصلة من التصفيق الحار الذى قوبل به كلام العريس
( الرجل ) .. راح العريس الرجل يحكى من جانبه قصة الذكريات السعيدة … و لحظات الإرتباط الأولى التىجمعته بحبيب القلب .. و يروى وقائع الكبت و الحرمان و القيم البالية فى بلاده التى منعته من الإرتباط بأعز إنسان لديه فى الوجود .. و يوجه الاتهامات لما وصفها ( بالعادات الذميمة ) التى تحرم الغنسان ( الذكر ) من أن يمارس الحب مع حبيبه ( الذكر ) .. و لم ينس أن يشكر مصر ذات القلب الحنون التى جمعت المحرومين .. و المطاردين على أرضها و منحهما حبها لقبول زواجهما على أرضها .
* و ما هى لحظات حتى كانت القاعة التى ازدحمت بالحضور تعلن عن بدء فاصل جديد من الرقص .. إذ تسللت إلى منتصف القاعة راقصة شابة .. كان المجون بادياً على وجهها . اتجهت صوب العروسين الرجلين و راحت تتمايل بينهما فى إستغراب .. و تعبر عن محبتها لشجاعتهما .. و راحت تدعو الفتيات الموجودات فى القاعة لكى يشاركنها فرحة الزفاف .. فاندفعن فى مساخر زاعقة .. يحيطن بها من كل إتجاه .. و هنا يتقاذفن ذات اليمين و ذات الشمال .. ليعربن عن سعادتهن بهذا الحدث الذى سيفتح الطريق أمامهن .. لكى تتزوج كل منهن من تحب من بنات جنسها .
و وسط السخط الذى عم المكان .. تقدم أحد العاملين بالفندق .. يدفع بتورتة كبيرة أمامه ( متر × 2 متر ) كتب عليها اسم الزوجين الرجلين ( الرجلين ) .. و كما يفعل فى حفلات الزفاف العادية .. راح يقدم لهما سكيناً ، و طلب منهما قطع تورته الزفاف .. إعلاناً ببدء الخطوات العملية لعقد الزواج الأبدى بين الزوجين .
على أنغام الموسيقى الهادئة .. تقدم الزوجان .. أمسكا بالسكين .. و برقة شديدة جرى قطع التورتة التى رُسمت على شكل قلب .. فيما راح الحاضرون يصفقون إعجاباً .. ثم تواصلت الرقصات .. و راح برنامج الحفل ياخذ طريقه حتى الخامسة صباحاً .. وسط ضجيج الذكور .. و عواء الإناث الذين شاركوا العروسين الرجلين فرحتهما .
و بينما كانت مآذن القاهرة تصدح بآذان الفجر .. و كانت آيات الذكر الحكيم تصدح فى جنباتها و فيما كان المصريون يتأهبون للخروج إلى أعمالهم بسطاء و عمال و فقراء يستعيذون بالله من الشيطان .. و هم يتوضأون ليصلوا الفجر .. و يستعدون لبدء يوم جديد فى حياه شاقة .. ملؤها التفاؤل و الأمل .. كانت وقائع أخرى تجرى داخل الفندق .. حيث راحت فرقة الزفاف تزف العروسين ( الرجلين ) إلى غرفة مشتركة .. تم حجزها خصيصاً فى الفندق .. أُغلقت الأبواب و طُويت صفحة الفرح .. و شهد من شهد .. و بدأت أولى ليالى العمر بين رجلين .. ضاقت بهما أرض بلدهما الكويت .. فوجدوا متسعاً فى مصرنا .. و فى قاهرة المعز .. ليرتكبا الرحام .. و ليمارسا الشذوذ من فوق شاطئ نيلنا الخالد .
و فيما كان الهدوء يخيم على المكان .. و فيما كانت بواكير الصباح تنبئ عن يوم جديد .. و كان المشهد العبثى يثير الحاضرين من إدارة الفندق .. إلى رجال الشرطة و السياحة و أجهزة الدولة .. لكن أحداً لم يعترض .. فنحن فى أشد الحاجة إلى دخل السياحة .. و أموالها يجب أن تتدفق على خزانة الوطن .. ليس مهماً الوسيلة أو الطريقة .. بل الغاية هى الهدف . ليس مهماً الحلال و الحرام .. ولا غضب الله سيحانه و تعالى .. بل كل شئ يهون طالما أن الدولارات و الدنانير تقتحم الجيوب .. ليس مهماً الإساءة إلى بلد الأزهر .. و لا المس بطهارة أولياء الله الصالحين .. القابعين على بعد خطوات من موقع المهزلة التى حدثت .. المهم فى نظر هؤلاء أن تكون مصر بلد الحضارة و الرياد ة.. و بلد الحرية .. و بلد كل شئ .. فلقد عز الشرف … و غابت المعايير .. و تراجعت الأخلاق .. و سقطت قيم كنا نظنها صامدة .. و لكن .. و يا للمأساه.. فها هى تتحطم أمام أعيننا دون أن نحرك ساكناً .