الموت بعد الحياة ترتيب طبيعى، لكن الغريب هو الحياة بعد الموت، خاصة أن زمن المعجزات قد انتهى، إنها باختصار قصة أربعة أشخاص حكم على واحد منهم بالحبس 10 سنوات والثلاثة الآخرين بالإعدام فى جريمة قتل عمد وارتدوا البدلة الحمراء ثمانى سنوات انتظاراً لتنفيذ الحكم ثم فوجئوا بتخفيف الحكم عليهم لسنتين لأحدهم و6 شهور للثانى وسنة لثالث دون تغيير الحكم على المتهم الرابع.
الموت تحول من عقاب إلى حلم ينتظره المتهمون الثلاثة ليريح أعصابهم من ألم الانتظار، حيث لم يغمض لهم جفن عين طوال هذه السنوات، خوفاً من دخول السجان يوماً حجرة أحدهم يقوده إلى حبل المشنقة، الموت.. الحياة.. الخوف.. ثلاث كلمات لم يعرفوا سواها طوال هذه المدة.
الرأى الحرانتقلت إلى منزل أحدهم، الذى أصيب بـ”فوبيا” من اللون الأحمر، لارتباطه ببدلة الإعدام التى ظل يرتديها لمدة 8 سنوات، ملامح وجهه مرسوم عليها علامات الحزن والأسى، بينما لسانه لا يردد غير جملة واحدة “حسبنا الله ونعم الوكيل”، اسمه سيد وبدأ فى سرد القصة قائلاً، “كان لدى شقة بالمطرية وكنت أبحث عن نقاش شاطر ليجهزها، فدلونى على شخص اسمه ياسر وتوسمت فيه خيراً، فتركت له الشقة يتصرف فيها كيفما يشاء، ثم أخذت طفلتى وزوجتى وذهبنا جميعاً إلى منزل والدى حتى ينتهى النقاش من عمله، وفى اليوم المزعوم ـ يوم الحادث ـ قررت المرور على الشقة حتى اطمئن على آخر التطورات بها ولم أكن أدرى أن قدمى تسوقنى إلى مسرح الجريمة، وما أن فتحت باب الشقة حتى فوجئت بسيدة فى العقد الرابع من عمرها ملقاة فى صالة الشقة و”ياسر” يقف بالقرب منها، وعندما لمحنى بدأت تظهر على وجهه ملامح الخوف، فبادرته بالسؤال “مين ديه وإيه اللى جابها شقتى هنا؟”، فأكد أنها حماته وأنه يعالجها بالقرآن فأغمى عليها وطلب منى مساعدته حتى تفوق من الإغماء، فحاولنا معاً وتكررت المحاولات دون رد، فعلمنا أن القدر قال كلمته فراح ياسر يندب حظه، لحظات من الخوف والقلق سيطرت علينا، أخذنا نفتش هنا وهناك دون جدوى ورحت أفكر فيما أفعل فقطع تفكيرى جملة قالها ياسر “يا إما تشيل الجثة ديه معاى ونرميها فى أى مصيبة يا إما هاخدك فى رجليه” الجملة هزتنى، خاصة بعدما أصيب عقلى بالشلل فلم أستطع التفكير ولم أدرِ بنفسى إلا وأنا أحمل الجثة معه إلى السيارة التى استوقفها أمام عتبة الشقة التى تقع فى الدور الأرضى من العمارة، كما أن الليل كان أرخى ستائره مما سهل المهمة علينا، كنت لا أتمنى سوى الخروج من هذا المأزق، كانت اللحظات تمر ببطءٍ علينا، وكادت نبضات قلبى أن تتوقف، حتى وصلنا إلى ترعة الإسماعيلية فألقينا بجثة المجنى عليها، ليتم بعدها القبض على ياسر الذى اعترف فى القسم بارتكابه بالواقعة، إلا أنه فاجأنا بتأكيده أمام رجال المباحث بأنه لم يقم بالجريمة بمفرده وإنما اتهمنى بمساعدته بل واتهم شقيقى أحمد وزميلى شعبان، الذى يعمل مدرساً فى نفس المدرسة التى أعمل بها، ليتم القبض علينا جميعاً وحاولنا إقناع أجهزة المباحث أننا لم نشاركه الجريمة، إلا أن رجال الشرطة بقسم الخصوص لم يسمعوا أصواتنا، فتمت إحالتنا إلى النيابة التى لم تهتم بأمرنا وأحالتنا إلى المحاكمة العاجلة ليصدر الحكم بالإعدام علينا جميعاً.
ربما أكون ارتكبت جرماً بالتستر على مجرم، إلا أننى لم أزهق روح آدمى حتى يحكم علىَّ بالإعدام، لقد ذقت طعم الموت كل يوم طوال ثمانِ سنوات وأنا ارتدى البدلة الحمراء، حيث كنت أجلس وحيداً فى حجرتى التى لا تتخطى الأمتار وأسترجع ذكريات الماضية، حيث أيقنت أن الدنيا لا تساوى أى شىء، وأننا نعيش بها كالأنعام، وكنت أشدد على زوجتى بعدم زيارتى حتى لا يرانى أولادى وأنا ارتدى البدلة الحمراء، لقد كنت طوال عمرى المثل الأعلى لهم واليوم أصبحت بصمة عار فى تاريخ حياتهم، لقد حاولت أن أجسد شخصية الشيطان أمام أولادى حتى أجبرهم على عدم زيارتى.
ياسر.. الحكومة.. النيابة.. مصطلحات مقرونة بالكره والبغض فى قاموس حياتى، فالأول قادنى لكارثة لا ناقة لى فيها ولا جمل، والثانية أخطأت فى تحرياتها وأثبتت التهمة على الجميع، والثالثة أطمئنت إلى تحريات المباحث ولم تستخدم علقها.
وعن يوميه الروتينى داخل محبسه، قال إنه لا ينام الليل خوفاً من دخول السجان عليه ليقوده إلى حبل المشنقة، فلا ترى عينيه النوم إلا فى السادسة صباحاً أما باقى اليوم فيستغله فى الصلاة وقراءة القرآن، وأشار إلى أنه أرسل لمحاميه رسالة من محبسه، قال له فيها جملة واحدة “يا إما البراءة يا بلاش”، لأنه كان دائماًَ يشعر أن البراءة ترفرف عليه، أما عن الأعياد والمناسبات فقد كانت تزيد من ألمه وحسرته على نفسه، ويختنق صوته ثم يستكمل الحديث، قائلاً “لا أنسى يوم أن وصل إلىَّ نبأ وفاة والدى ووالدتى، حيث توفيا حسرة على وجودى بصحبة شقيقى فى السجن ننتظر الموت فى كل لحظة”، وأضاف قائلاً لقد كنت أمس أنتظر الموت لأننى متهم واليوم خارج قضبان الحديد لأننى برىء، فمن يعوضنى مرارة السنين؟
وتعود الأحداث إلى 3 أغسطس بدائرة قسم الخصوص محافظة القليوبية بقيام كل من ياسر على جاد الله، وأحمد شفيق وشقيقه السيد وشعبان درويش بقتل غنية رجب عكشة عمداً مع سبق الإصرار، بأن استدرجوها إلى شقة السيد شفيق المتهم الثالث فى القضية، وما أن تمكنوا منها حتى قيدوها بالحبال وكتم أنفاسها حتى لفظت أنفاسها، وسرقوا مصوغاتها الذهبية، وتوثيقها بالحبال ولفها “ببطانية” وحملها داخل سيارة أجرة خاصة بالمتهم الثانى وإلقائها بترعة الإسماعيلية، تم القبض على المتهمين وتمت وإحالتهم النيابة إلى محكمة جنايات بنها.
أصدرت محكمة جنايات بنها فى 24 نوفمبر 2002 حكمها بمعاقبة الأول والثانى والثالث بالإعدام شنقاً، كما عاقبت المتهم الرابع بالسجن 10 سنوات، ليتقدم المتهمون بنقض الحكم أمام محكمة النقض التى قضت بإعادة المحاكمة من جديد أمام محكمة جنايات القاهرة لعدم اختصاص محكمة أول درجة، لتؤيد محكمة الجنايات الحكم بإعدام الثلاثة والسجن 10 سنوات للرابع، الأمر الذى دفع أسامة أبو النيل دفاع المتهمين الثانى والثالث بالتقدم للطعن على حكم الإعدام بعد صدوره مرتين لتصبح محكمة النقض محكمة موضوعاً وليست محكمة قانون لتفتح ملف القضية من جديد، اعتمد أبو النيل فى مرافعته على أن محكمة جنايات القاهرة قامت بنسخ أسباب حكم محكمة جنايات بنها كربونياً دون أى تغير مما يخالف القانون ويعتبر إلغاءً لدرجة من درجات التقاضى، كما اعتمد الدفاع أيضا على نص المادة 41 من الدستور بأنه لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه وحبسه إلا بصدور أمر من النيابة بينما تم القبض على المتهمين قبل إصدار إذن النيابة، لتقضى محكمة النقض بإلغاء الحكم الصادر من محكمة جنايات بنها بإعدام 4 متهمين شنقاً، لتكتفى بمعاقبة ياسر على جاد الله (نقاش) بالسجن المشدد 10 سنوات، والسيد شفيق محمود (مدرس) بالحبس سنتين مع الشغل وشقيقه أحمد (31 سنة) صاحب سوبر ماركت بالحبس سنة مع الشغل.
كما عاقبت شعبان درويش محمود (38 سنة ـ مدرس) بالحبس 6 أشهر مع الشغل، حيث عدلت المحكمة قيد ووصف القضية من القتل العمد إلى جنحة نقل جثة دون ترخيص وعدم الإبلاغ عن جريمة.