فى ابريل من العام 1982 شهد العالم كله عملية اجلاء المستوطنين اليهود من مستعمرة ياميت بالقرب من مدينة العريش التى تطل على ساحل البحر المتوسط فى سيناء ، و تأتى عملية اجلاء المستوطنين اليهود عن ياميت تمهيدا لتسليمها لمصر تنفيذا لمعاهدة السلام المصرية الاسرائلية التى ابرمها الرئيس انور السادات مع الصهيونى مناحيم بيجين فى العام 1979 ، و قد غادر اليهود كافة المستوطنات فى سيناء دون اعتراض منهم ، غير ان مستعمرة ياميت كان لها وضعا غريبا اختلف عن باقيها فى انها ضمت غلاة اليهود الذين قاوموا عملية السلام و تظاهروا ضد الانسحاب و رفضوا كل المغريات التى عرضتها الحكومة الصهيونية عليهم من تعويضات مالية و وظائف و سكن اكبر داخل الكيان الصهيونى ، رفضوا ذلك انطلاقا من ايمانهم بان سيناء هى ارض اجدادهم و انهم لن يسلموها للعدو المصرى ، هنالك وقعت حكومة الكيان الصهيونى فى مأزق ، اذ كيف يتم اجلاء مواطنين اسرائيلين بالقوة ؟.
وضع ارئيل شارون وزير الدفاع الصهيونى خطة ” اليمامة الحمراء ” لتنفيذ عملية اجلاء ألفى مستوطن يهودى من مستعمرة ياميت ، اشترك فيها عشرون الف جندى ، فحاصروا المستوطنة يوما كاملا و فى اليوم الثانى اذاعوا على المعتصمين نداءات بعض حاخامات اليهود يطالبونهم بالخروج و اذ لم يمتثلوا وجهت القوات تحذيرات بان الاعتصام يعد مخالفة للقانون فاذا لم تفلح كل تلك الاساليب شرعوا فى اقتحام المبانى التى تحصن فيها المعتصمون و لكنهم توقفوا حين وجدوا المعتصمين ينتظمون فى صلاة ، حتى اذا قضيت الصلاة استعان الجنود بسلالم خشبية يبلغ طولها خمسة امتار للصعود الى اسطح المبانى التى اعتصم فيها المستوطنون فقام المستوطنون بتكسير تلك السلالم و اوقعوامن تسلقها من افراد الجيش الا الجيش لم يستعمل القوة ، القى المعتصمون الاطارات المشتعلة ولم يستعمل الجيش القوة ، رشق المستوطنون افراد الجيش بالحجارة فلم يرد الجيش ، واذا لم تفلح الحيل دون القوة لجأ الجيش الى المروحيات لاجلاء المستوطنين من اسطح المبانى التى يسيطرون عليها و احيانا قاموا برشهم بمادة رغوية لزجة لا تسبب ثمة اختناقات او امراض ! و بهذه الطريقة سيطر الجيش على المعتصمين المقاومين فلم يصب منهم احدا و لم يقتل منهم احدا و لم يستخدم اى قوة سواء كانت دخانا خانقا او رشا او رصاصا ، و حين سيطر على المقاومين لم يضربهم بالهراوات ولم يكسر عظامهم و لم يدهس صدورهم باحذيته و لم يعرى احدا من ملابسه ، بل نقل الاطفال بحنو بالغ الى اماكن آمنة و نقل السيدات باحترام الى اماكن لائقة اما الرجال فلم يسبهم و لم يقبض عليهم بل انه آمن كبيرهم و زعيمهم مائير كاهانا و اطلقه دون سؤال واحد لماذا قاومت الجيش و رشقته بالحجارة و القيت على افراده الاطارات المشتعلة ؟
و حينما بدأ الجيش يسيطر على اسطح مبانى المستوطنة تجمع عدد من المستوطنين فى قبو احد المبانى و هددوا بالانتحار ، فاستعمل الجيش معهم طريقة فريدة لاخراجهم دون خسائر او اصابات ، اذ نقب جدار القبو فخرج المعتصمون سالمين !!
انتهت عملية اليمامة الحمراء التى استمرت ثلاثة ايام دون قطرة دماء واحدة و دون ضرب و دون انتهاك للاعراض و دون فضائح ، بل ان الحكومة الصهيونية رفضت بيع مبانى المستوطنة لمصر ارضاءا لسكان المستعمرة ، و تنفيذا لطلباتهم امر مناحيم بيجين بتدمير كافة المساكن و المبانى ، فقام شارون بتفجيرها فامست كأن زلزالا ضربها بعنف إلا من كنيس ( معبد يهودى ) اعتبروا ان هدمه يخالف العقيدة اليهودية وسجل المعتصمون على جدرانه كل ما ارادوا ان يبلغوه من سباب للعدو المصرى!!.
اسفرت العملية عن اجلاء المستوطنين و تدمير المستعمرة و بكاء الاسرائيلين ، غير ان العالم صفق احتراما للجيش الذى لم يضرب شعبه وصفق احتراما للشعب الذى لم يضربه جيشه !
و فى اكتوبر من العام الجارى عرف العالم كله اسلوبا لم يحدث مثله مطلقا فى فض المظاهرات السلمية ، ذلك ان المتظاهرين الذين تجمعوا امام مبنى الاذاعة و التليفزيون بوسط القاهرة بمجرد ان هتفوا بشعارات ضد المجلس العسكرى حتى انتفض الجند بمدرعاتهم التى كانوا يتمركزون بها امام المبنى و دهسوا المتظاهرين ، و اسفرت هذه العملية عن خمسة و عشرين قتيلا و مئات المصابين !!و بيان لعصام شرف رئيس الوزراء بان ما حدث مخطط لاسقاط الدولة و تهديد بقطع يد المتورطين !! .
وفى نوفمبر من العام ذاته تناقلت الفضائيات العالمية بثاً على الهواء من ميدان التحرير بالقاهرة لقوات الجيش المصرى و هى تفض اعتصام بعض اسر شهداء ثورة الخامس و العشرين من يناير الذين لم يحصلوا على مستحقاتهم المالية التى قررتها الحكومة ، و كانت طريقة الجيش فى فض الاعتصام طريقة صادمة ، فقد حاصر آلاف الجنود ميدان التحرير من كل الجهات فلم يعد هناك منفذا لهروب المعتصمين ثم اقترب الجنود من المعتصمين دون تنبيه او انذار و تكاثروا عليهم ، كل عدة جنود يضربون معتصماً واحداً بالهراوات بكل قسوة و شدة على كل مناطق جسمه حتى يسقط مصاباً او قتيلا ثم يتحولون لغيره حتى اذا فرغوا من البشر تحولوا الى اللافتات المعلقة على اعمدة الكهرباء فمزقوها و الخيام المنصوبة فمزقوها و أحرقوها ثم تحولوا الى الطعام فبعثروه و داسوا عليه بالاقدام ، ثم نظر أحد الجند فوجد دراجة بخارية فأشعل فيها النار ؟! و انسحب الجند ثم أمطروا الميدان بوابل من قنابل الغاز الخانقة !، و اسفرت هذه الواقعة عن عدة قتلى و عشرات المصابين ؟!و مليونية صاخبة بميدان التحرير فى الجمعة التالية للتنديد بما حدث والمطالبة بتسليم السلطة الى مدنيين .
وفى ديسمبر من العام ذاته رأى العالم ان الجيش المصرى فاجأ المعتصمين بميدان التحرير بغية فض اعتصامهم بالقوة المفرطة التى طويت على الضرب بالهراوات واطلاق قنابل الغاز الخانق ثم تطورت بعد مقاومة المعتصمين برشق الحجارة الى تصويب الرصاص القاتل الى رؤس المقاومين ، و امتد الصراع بين كر و فر عدة ايام ، انسحب خلالها الجيش الى شارع محمد محمود و تمترس امام ديوان وزارة الداخلية التى كانت عونا للجيش فى ضرب و قتل المتظاهرين ، و اسفرت هذه العملية عن قتلى بالعشرات و جرحى بالمئات ، و استهجان العالم كله و تعجب المصريين جميعا و استقالة عصام شرف رئيس الوزراء !! .
و فى الشهر ذاته و امام مجلس الوزراء بوسط القاهرة راينا جحافل الجيش المصرى و هى تشن اكبر عملية فى تاريخها لاجلاء عدة معتصمين سلميين فكرروا ما حدث فى ميدان التحرير ، محاصرة الموقع و تكاثر عدة جنود على متظاهر واحد فيوسعوه ضربا مبرحا بالهراوات حتى اذا سقط يدهسونه باحذيتهم الثقيلة ثم يتحولون لسواه ، غير ان الجديد فى هذه الموقعة ان المتظاهرين كان بينهم فتيات فلم تسلم الفتيات من التعدى عليهم بالضرب المبرح بالهراوات و السحل حتى انسلخت ملابس الفتاة وظهر جسدها عاريا فما كان من الجندى القريب منها الا ان ركلها فى صدرها بحذائه عدة مرات حتى كادت ان تلفظ انفاسها الاخيرة ، صاحب ذلك المشهد او سبقه استهداف المتظاهرين بالرصاص الحى الذى اودى بعشرات منهم قتلى و مصابين و تطور الاشتباك الى اعتلاء بعض الجند سطح مبنى المجمع العلمى و رشق المتظاهرين بالحجارة و قنصهم بالرصاص فأدى ذلك الى اسفزاز المتظاهرين فرشقوا القناصين بالحجارة و كرات النار فادى ذلك الى اشتعال النار فى المبنى ، و تركه الجيش دون محاولة اطفاء الحريق لمدة خمسة ساعات كاملة شاهدها العالم على الهواء من خلال وسائل الاعلام المرئية ..
و اسفرت هذه العملية عن مئات المصابين و عشرات القتلى منهم الشيخ و الصيدلى و المهندس و الطبيب و التهام النار للمجمع العلمى بكنوزه و القبض على المئات و حبسهم احتياطيا بمعرفة النيابة العسكرية و اقامة جدران من الحواجز الاسمنتية للفصل بين المتظاهرين و قوات الجيش و صدور بيان من المجلس الاعلى للقوات المسلحة يتهم طرفا ثالثا بافتعال الفتنة وعلى اثر مليونية رد الاعتبار اعتذر الجيش لبنات مصر عن السحل !! ..
و السؤال الآن : ماذا لو قارن العالم بين الجيش الاسرائيلى و الجيش المصرى فى فض المظاهرات و الاعتصامات ؟ لقد كان اعتصام اليهود فى مستعمرة ياميت اعتصاما غير مبرر و تظاهر غير سلمى استخدموا فيه الحديد واوقعوا به السلالم التى استعان بها الجند فى الصعود الى اسطح المبانى كما رشقوهم بالحجارة و القوا عليهم الاطارات المشتعلة و لم يضرب اى مستوطن و لم يهان و لم يحاكم و لم يتهم بانه يعمل لحساب جهة اجنبية او طرف ثالث !! بينما الحال فى مصر مختلف تماما ، فالمتظاهرين يتظاهرون ايمانا منهم بان الحال فى البلاد قد تغير بسقوط حسنى اللا مبارك و ان التظاهر و الاعتصام السلمى حق للثوار لا يجوز مصادرته فاذا بالجيش يضرب و يقتل و يحرق و يلوث السمعة باتهامات العمالة دون دليل و تكون نتيجة العمليات حريق يلتهم كنوز مصر و شماته الاعداء و تحسّر الشعب العربى كله و لسان حاله يقول : ” يا ميت خسارة على الجيش المصرى ” ..