ابتداءا اقرر ان المستشار الدكتور حسين البسومى هو احد ابرز رجال القانون الجنائى الدستورى فى العالم العربى بما اثرى به المكتبة العربية من بحوث و مؤلفات اهمها كتاب ” الوسيط فى اصول محاكمة رئيس الدولة و الوزراء ? دراسة تشريعية مقارنة ” و الكتاب من القطع الكبير ? طبعة 1992 ، واعتقد ان هذا الكتاب ليس له مثيل او نظير فى المكتبة القانونية العربية ، بما يحق القول بان المستشار البسومى هو اول من طرق باب محاكمة رؤساء الدول و الوزراء فى مؤلف كبير يناهز تسعمائة صفحة ، وقد حفل الكتاب بايراد العديد من محاكمات رؤساء الدول عبر التاريخ فى كافة انظمة الحكم الجمهورية و الملكية و الامبراطورية و العديد من الوزراء ايضا ، بما ينبىء ان المؤلف ذو خبرة عميقة بالمحاكمات الكبرى ..
و المطالع للكلمة الوجيزة التى قدم بها المستشار البسومى لمشروع قانون انشاء محكمة ثورة 25 يناير يجد ان دافعه الى صياغة القانون هو الحرص على عدم افلات الجناة الذين قتلوا الشهداء و الجناة الذين نهبوا اموال الشعب و الجناة الذين حولوا مصر من دولة محورية الى دولة يتعطف عليها جيرانها بالعطايا مقابل ان تحنى رأسها سمعا و طاعة ، هؤلاء الجناة الذين اذاقوا شعب مصر كل صنوف القهر و الذل و افقروه بسرقة مقدراته و تزوير ارادته اضاعوا ادلة الاثبات او مسخوها او اتلفوها او جعلوا افعالهم قانونا و بالتالى فان محاكماتهم امام المحاكم العادية وفقا لقانون العقوبات يعتبر عبثا و اساءة للقضاء ، فمثلا زور حسنى مبارك و وزراء داخليته انتخابات الرئاسة و مجلس الشعب و الشورى طوال ثلاثين عاما و لا يستطيع مكابر ان ينكر التزوير الذى كان يتم جهارا و بغير خجل ، و لكن اذا قدم هؤلاء المزورين الى المحكمة سرعان من يحكم ببراءتهم لان جريمة تزوير الانتخابات تسقط بمضى ستة شهور فقط طبقا للقانون !!، و كذلك جريمة الرشوة تسقط بمضى عشرة سنوات و قد مكثوا فى الحكم ثلاثين عاما اى ان الرشاوى التى يعترفون بها سقطت جريمتها ، اما جرائم قتل المتظاهرين فقد تم اتلاف اهم دلائلها وهى اسطوانة تسجيل مكالمات وزارة الداخلية حيث كان العادلى يتلقى تعليمات جمال و حسنى مبارك وسوزان ثابت و زكريا عزمى و صفوت الشريف بقتل المتظاهرين ، و الحال كذلك فى سائر الجرائم التى ارتكبها مبارك و عصابته طوال ثلاثين عاما ، كما ان قضاة الجنايات المنوط بهم الفصل فى تلك الجرائم هم صنيعة زكريا عزمى و صفوت الشريف و فتحى سرور وحبيب العادلى و غيرهم من اهل الحظوة الذين كانوا يعينون اقاربهم و اصهارهم و دافعى الرشوة الحاصلين على ليسانس الحقوق بتقدير مقبول فى وظائف النيابة العامة و يستبعدون الذين حصلوا على تقدير جيد جدا لانهم ليسوا من اصحاب الحظوة ، لذلك من المتوقع ان تجىء الاحكام القضائية فى جرائم عصابة مبارك تبرئة للقتلة و ادانة للثوار باعتبارهم خارجين على الشرعية التى كانت العصابة تمثلها و بالتالى فان العصابة حين تقتل تكون قد مارست حق الدفاع الشرعى عن مصر !! ( اقرا حكم محكمة جنايات القاهرة فى قضية الضباط المتهمين بقتل ثوارالسيدة زينب ) ..
قرأ المستشار البسومى تلك النتائج بحسه الثورى و عبقريته القانونية فصاغ مشروعا لقانون محكمة الثورة ليتدارك ما لن يستطيع القانون الجنائى الحالى تحقيقه ، فارتأى ان تشكل المحكمة من سبعة اشخاص ثلاثة منهم من رجال القانون و اربعة ممثلين عن الشعب ، اما رجال القانون فاولهم مستشار بمحكمة النقض و له رياسة المحكمة و لواءان من القضاء العسكرى و اما الاربعة الممثلين للشعب فمنهم عضوان من اعضاء مجلس الشعب و عضوان من ثوار 25 يناير يختارهم مجلس الشعب ، و المحكمة بهذا التشكيل تعتبر ممثلة لكل طوائف الشعب ، فمنها القضاء و له الرئاسة و فيها الجيش و فيها مجلس الشعب المنتخب و فيها الثوار الممثلين لميدن التحرير ، و المحكمة بهذا التشكيل ليست بدعا فى القانون ، فهناك كثير من الدول تجعل للمحلفين دورا هاما فى القضاء ، و لدينا فى مصر سوابق قضائية كثيرة لهذا منها محكمة الوزراء فيما قبل ثورة 52و ما بعدها و محكمة الغدر53 و محكمة القيم 78
اما اختصاص محكمة الثورة فقد تم صاغه المستشار حسين البسومى بعبقرية ليكون اختصاصا شاملا بالافعال التى قد لا تشكل جرائم فى القانون الجنائى الذى كانت عصابة مبارك تشرعه مثل كافة الافعال الى تعتبر افسادا للحكم و استغلال النفوذ ، او التأثير فى القضاء باستبعاد ذوى الكفاءة و تعيين المحسوبين على اصحاب النفوذ ،او الافعال التى تعتبر موجهة للثورة كانكارها و السخرية من الثوار و النيل منهم فى الاعلام ، او الافعال التى ارتكبت فى حق الثوار مثل رفض اسعافهم او علاجهم او صرف مستحقاتهم ..
و يتسع الاختصاص ليشمل القضايا المنظورة امام المحاكم و القضايا التى صدر فيها احكام بالبراءة و القضايا التى يرى رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة احالتها الى المحكمة فيما بعد ، و بالتالى فلسنا فى حاجة الى قانون محكمة جرائم الغدر الذى ولد ميتا لان تعديل احكام القانون و اجازة الطعن على احكامه بالنقض فرغه من مضمونه ، اذ يستطيع فلول الحزب الوطنى المتهمين بالغدر بمصرو شعبها ان يترشحوا لرئاسة الجمهورية او مجلس الشعب و هم فى مأمن من قانون الغدر ، لان التحقيق معهم سوف يستغرق سنوات و الاحالة الى محكمة الجنايات و الحكم فيها سيحتاج سنوات و الطعن على الحكم بالنقض سيستغرق سنوات اخرى ، فى حين ان العقوبة التى تطبقها المحكمة هى الحرمان من الترشح للمجالس النيابية ، اى يكون الفل قد ترشح مرتين لمجلس الشعب قبل ان يتم تطبيق حكم الغدر عليه !!
و العقوبات التى تطبقها محكمة الثورة هى عقوبات عديدة تتناسب و الجرائم التى ارتكبها مبارك و عصابته ، فلها ان تحكم بالاعدام او السجن المشدد او اى عقوبة اخرى دون التقيد بقانون العقوبات ، و يحضرنى هنا حكم محكمة الثورة على محمد كامل القاويش ( نائب محافظ القاهرة ) الذى قدم لمحكمة الثورة بتهمة الفساد فحكمت عليه المحكمة بسجنه خمسة عشرة عاما مع ايقاف التنفيذ و تجريده من لقب مواطن !! ، و كان للشق الثانى من الحكم اثر عظيم على حياة المحكوم عليه ، لان الناس كانوا يتكالبون لتحيته اثناء شغله منصبه و حتى بعد تركه ، اما بعد الحكم عليه بالتجريد من لقب مواطن ، فقد كان الناس جميعهم يتحاشون رؤيته ، فاذا سار على يمين الشارع تحول الناس جميعهم الى اليسار كيلا يلتقوه اويقابلوه ، و احس المحكوم عليه ان الشعب قد نبذه فطبع بطاقة تعارف فيها اسمه وتحت الاسم كلمة ” مواطن سابقا ” !!! ، و اظن ان هذه الحكاية هى التى اوحت الى المستشار حسين البسومى بالا تتقيد محكمة الثورة بالعقوبات الواردة فى القانون الجنائى ، لان هذه الحكاية وردت فى مؤلفه القيم ” الوسيط فى اصول محاكمة رئيس الدولة و الوزراء ” .
كذلك فان حكم الادانة يستتبع الحكم على المتهم بتعويض الخزانة العامة مقابل ما اثرى من افعال او ضاع على الخزانة بسببه ، ومصادرة اموال المتهم و زوجته و اولاده كلها او بعضها ( عقارية و منقولة ) ، وعزل المتهم من وظيفته العامة و حرمانه من المرتب المقرر له او المعاش حسب الاحوال ، و حرمانه من الترشح لاى مجلس نيابى ، و حرمانه من الشهادة امام المحاكم ، و سحب جواز سفره او الغائه ، وضعه تحت مراقبة البوليس ، و تجريده من رتبته و سحب النياشين و الاوسمة التى تقلدها اثناء خدمته و استرداد المكافآت التى تقاضاها عن تلك النياشين ، و تلك عقوبات طبييعية جدا بالنسبة لعصابة الحكم التى استمرت ثلاثين عاما تقلدوا فيها المناصب بغير حق ومنحوا انفسهم اوسمة دون حق تقاضوا عنها مكافأت و معاشات بالوف الجنيهات بينما الشعب يعانى من شظف العيش ، فكان حقا استرداد مكافآت تلك الاوسمة و النياشين و التجريد من الرتب و سحب جوازات السفر و الغائها ليقبعوا فى الوطن فلا يكيدوا للثورة و لا ينعموا بما نهبوا من اموال مهربة ، خاصة و ان دولا عديدة تسعى لاستضافتهم و اعتبارهم ضحايا او لجوئهم الى الاعداء للعمل جواسيس خاصة و قد كانت الدولة و اسرارها بايديهم .
اما نشر الحكم فى الجريدة الرسمية و عشرة صحف دولية واسعة الانتشار على نفقة المحكوم عليه ، فتلك فكرة ليس لها سابقة فيما اعلم .. و قيمة النشر فى الجريدة الرسمية انها ستتحول الى شهادة للتاريخ ، اما النشر فى الصحف الدولية فهو بمثابة اعلان الحكم لاصدقاء المحكومين من الزعماء و لسائر الشعوب ليعلموا كيف خربت عصابة مبارك وطن بقدر مصر و كيف نهبوا ثرواته و مقدراته ثلاثين عاما ، و كيلا يشفع الزعماء للمحكوم عليهم و كيلا تقبل الشعوب الحرة لجوء المحكومين الى اوطانهم ..
و تتميز المحكمة بان لها مكتب للتحقيق والادعاء يلحق به عسكريون و محامون واعضاء من النيابة العامة يعينهم مجلس الشعب ، يتولون التحقيق و رفع الدعوى والادعاء امام المحكمة دون ثمة قيود سابقة او قانونية ، فلمكتب التحقيق و الادعاء اعادة التحقيق من جديد فى القضايا التى اصبحت من اختصاص المحكمة وادخال من يرى من المتهمين و تقديم الدعوى للمحكمة بالقيود و الاوصاف التى يراها منطبقة على وقائعها .
و حسنا نص مشروع القانون على حظر الادعاء مدنيا امام هذه المحكمة ، و ان اعتقد ان المجنى عليهم لن يحزنوا على عدم حضورهم فى هذه المحكمة لان الادعاء سوف يمثلهم بامانة و اخلاص و شجاعة لم تواتى النيابة العامة فى القضايا المطروحة على محكمة الجنايات حاليا و التى هى عبارة عن سمك لبن تمر هندى ، اذ ما صلة قتل المتظاهرين بالتربح و ما صلة التربح بتصدير الغاز لاسرائيل و كيف يجوز جمع تلك التهم الكبيرة فى دعوى واحدة يتعدد متهموها !! هذا العبث لن يكون له مجال امام محكمة الثورة .
و النص على عدم جواز رد المحكمة او اى من اعضائها يشكل ضربة قاضية لكل من تسول له نفسه تعطيل المحاكمات ، وقد نص القانون على ان تصدر المحكمة احكامها بأغلبية اعضائها و احكامها نهائية و لايجوز الطعن عليها امام اى جهة او باى طريقة ، و هكذا حسم مشروع القانون امر المحاكمات فى مدة وجيزة ، و مراعاة لتطور الاحداث اجاز القانون لرئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة النظر فى تخفيف الحكم بعقوبة السجن بعد قضاء المحكوم عليه نصف المدة على الاقل ، اما باقى العقوبات فلا يجوز تخفيفها مطلقا ، اى لا يجوز تخفيف حكم الاعدام و لا يجوز النظر فى سائر العقوبات الاخرى كالمصادرة او تجريد الرتب او سحب النياشين الخ الخ …
اما اهم مادة بمشروع القانون على الاطلاق فهى المادة التى حددت النطاق الزمنى لبدء سريان قانون محكمة الثورة بانه اول يناير سنة الف و تسعمائة و ثمانون ميلادية ، اى قبل بداية ولاية حسنى مبارك و عصابته ، فلا يستطيع احدهم الافلات من الجرائم بالدفع بانقضاء الدعوى بمضى المدة ، و بالتالى لا تعوق العدالة عقبات قانونية ، و لم ينسى المستشار البسومى ان يحيل كافة سلطات رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة المنصوص عليها فى قانون المحكمة الى رئيس الجمهورية بمجرد انتخابه .
يبقى ان يصدر مجلس الشعب هذا القانون قبل ان تبرأ المحاكم العادية المتهمين و قبل ان يدان الثوار ..
آمال برغش المحامية بالنقض