الـــــــــــــــــــوان . .
لم تعد تعتريني تلك الدهشة .. حتى مع الأخذ في الاعتبار أن الانسان حيوان يندهش .. مش مهم .. ماذا يضير والبودي جاردز يملأون حياتنا ، والمكان هنا داخل وخارج المبنى .. ماذا يضير وقد اختُصرت مهمتنا إلى حالة من فض الاشتباك بين الألوان ، الأحمر والأزرق ومشتقاتهما في جانب ، والأخضر وحده في المقابل .. يتطاولون عليه ، ويتعالون .. ربما لارتباطه بالأرض والطين وسرعة الجَرَب ..
في الصباح ، وإلى جوار بوابة الدخول .. السيدتان متأنقتان ، والمنافسة خفية في الشياكة والعطور وحبكة الثياب .. ضِيق الباب الالكتروني يولِّد الزحام ، حتى يميزنا إلى أجناس .. تشير إحداهما إلى ابنها في زيه الأخضر، بأصابع رقيقة بأطراف فضية لامعة ، كأنما تدفع عن نفسها حرجاً ما :
– والده قال ننقله السنة الجاية .. علشان لسه عندهم مدرسين مصريين .. يكونوا خلصوا منهم ..
ترمقني بنظرة خاطفة ..
ترد الأخرى بفخار .. تربت بكفها ذي الماسات تتوهج ، على كتف ابنها في زيه الأزرق ، شامخة بأنفها :
– إنتم إزاي سايبين إبنكم كده ، لحد دلوقت .. وبعدين دول مش مصريين .. دول أجانب ، ومعاهم جنسيات .. بس مولودين هناك ..
عينا الولد في زيه الأخضر لم تفارقا الأرض .. يمعن الولد في زيهِ الأزرق في إغاظة زميله القديم :
– عندنا رحلات كثير كمان .. قرى سياحية وحفلات و مزيكا .. بنعمل اللي إحنا عايزينه ..
توقفت سيارة سوداء فارهة أمام البوابة .. نظر إليها بودي جاردز البوابة ، بأعين فاحصة من خلف نظاراتهم السوداء .. أسرع بالنزول منها صبي في عمر الولدين ، في زي أحمر .. صَفَقَ بابها الخلفي .. لَحِقَه شاب ضخم مفتول العضلات ، في بذلة سوداء ضيقة .. نزل مسرعاً من الباب الأمامي ، بودي جارد آخر .. منزلي .. وقف خلف الصبي ، نزع نظارته السوداء .. يهمس له ببشاشة :
– مش الباشا قال لحضرتك تنتظر في العربية لحد ما افتح لك الباب ..
لم يُعِره الصبي إهتماماً .. يُحيي زميليه .. إنتحىَ بالأزرق جانباً في حديث باسم .. أنزل حقيبته على الأرض .. بدأا الهمس ، يبحث في حقيبته بعصبية ، يبدو أنه جهاز ، ظهرت أسلاكه .. علَت ضحكاتهما .. بدا الضيق على زميلهما القديم .. الأخضر، ووالدته ..
وجدتني أمام الجهاز الإلكتروني الخاص بنا .. أطلق صافرة الموافقة على الكارت الخاص بي .. عبرت إلى الداخل بين الزملاء البودي جاردز .. أمُرّ بقاعة استقبال الحمر والزرق في طريقي إلى مقر الخضر .. بالخلف .. يتردد صدى حديث المرأتين حولي في القاعة.. الألوان .. تلويننا يُدِر أكثر .. والظروف متاحة .. تنوء الجدران بما تحمله من الشعارات المعدنية الملونة ، والشهادات في أطرها الزجاجية ، تحوطها أعلام امبراطورية لجهات أجنبية ، تبعثر شعاراتها البراقة وشهادات الإشادة .. كلها تفصح لي اليوم .. يرد صداها على المرأتين “ليست مسألة عِلم .. عِلم بصحبة بودي جاردز ..” . الشعارات مُصغّرة على الزي الأحمر والأزرق .. تكسبه قوة وسطوة ..
لا حدود لقسوة اللون هنا .. فالأخضر بلا شعارات ولا شهادات .. لا يسانده سوانا بتلمس حكمة متوارثة .. في مواجهة تسلط الثروة .. بتأفف يطلق عليه الجيران لفظة اجنبية تعني “وطني” .
الأولاد في الأخضر في توتر وخروج عن المألوف .. لم تعد أحلامهم بالتفوق ، بل بالخروج من الشرنقة الخضراء ، للدخول في الأحمر أو الأزرق .
تبدي لي الأم صاحبة المنصب المرموق دهشتها عبر الهاتف ، والحديث عن إبنها صاحب الزي الأحمر :
– أعطوني رقم هاتفِك .. لم أتصوّر أن يكون عند الخضر ?نطقت لفظة وطني
الأجنبية- أناس يعملون بهذا الجِد ..
انفجرتُ فيها :
– وسيادتك .. بعلمك الغزير والدرجات العلمية ، انسقتِ في معركة الألوان ..
وتحت أي مسمى وسبب .. الوجاهة الاجتماعية .. أم زيادة الفجوات والمشاركة في هرس هويتنا .. هي كدة العولمة ..
نأتلف الآن البودي جاردز الخمس .. يتسمرون كأعمدة على محيط دائرة الميدان وقت خروجنا عصراً .. في مركز الدائرة رئيسهم بجهازه اللاسلكي ، فلا وجود للشرطة .. المعارك اليومية تتميز فيها الألوان ، والنفوذ والسطوة .. يسعى باقي زملائنا البودي جاردز ?وهم كثيرون يظهرون فجأة- لفضّها .. وبحرص .. بين ضحكات شرسة تطلقها البنات على الرصيف المقابل ، تسمع همهماتهم في غمارالاشتباكات ، ينبهون بعضهم :
– خد بالك .. ده ابن الباشا بتاع السيراميك ..
– واللي معاه المطواه هناك ده ابن صاحب السوبر ماركت ..
– واللي معاه جهاز غريب ده ابن سيادة المحافظ ..
كل صباح ، أنظر إلى جسمي في المرآة .. مؤكد أن زملائي البودي جاردز انضموا الآن إلى نقابة المعلمين .. فماذا أفعل ..