نواجه في حياتنا اليوميّة صعوبات صغيرة أو كبيرة، غالباً ما تفقدنا حسّ التّمتّع بالحياة. كما أنّها غالباً ما تفقدنا كلّ الطّاقة على التّحمّل، فنقلق ونغضب ونصل إلى مرحلة نفقد فيها الاتّزان الّذي يمكّننا من أن نكمل حياتنا ونحصد ثمار مجهودنا. إذا ما كنّا نتحلّى بهذا الاتّزان فسنتمكّن من مواجهة صعوباتنا اليوميّة، كتلك الّتي نواجهها في التّربية، أو في الأزمات التّقليدية والمواضيع الحياتيّة المتعدّدة. أمّا في حال فقدانه فكثيراً ما تأتي النتائج سلبية. لذا نرى الكثير من المربّين والمربّيات يضيقون ذرعاً بأوضاعهم في فترة من الفترات، وبالتّالي يصلون إلى مرحلة يغضبون فيها من أمور صغيرة أو كبيرة.
أمّا الصّبر الّذي نتحلّى به ويساعدنا على مواجهة الأمور والذّي يمنحنا القوّة لنحتملها فله حدوده. وما يلبث أن يتحوّل في ما بعد إلى نقاط ضعف، تجعل من الإنسان غير قادر على التّحرّر داخليّاً، فيصبح مسيّراً للأحداث التّي تمرّ في حياته، فلا يتمكّن أن يكون ذاته بغضّ النّظر عمّن حوله.
ما بين الصّبر الّذي يشكّل قوّة والصّبر الذي يتحوّل إلى عامل ضعف، كيف يستطيع الإنسان أن يستخدم طاقته ليبقى محافظاً على اتّزانه وعلى رؤيته الواضحة للأهداف كي تعود عليه تصرّفاته وسلوكيّاته بالكثير من الإيجابيّة؟.
من المؤكّد أن الصّبر ميزة تمنح الإنسان قوّة، ولكنّه قد يكون في حالات معيّنة نقطة ضعف، لذا من المهمّ أن نكوّن فكرة توضّح لنا متى يكون الصّبر عامل قوّة ومتى يكون عامل ضعف.
هل الصبر قوة ثابتة في الإنسان أم هو هو قوة متغيرة متنامية بنمو الإنسان وتنميته لها؟
إنّ الصّبر الّذي يتحلّى به الإنسان ليس فطريّاً، فنرى الطّفل في مراحله الأولى لجوجاً ولا يتمتّع بالصّبر، ويريد أن تلبّى طلباته سريعاً وهذا طبيعيّ. بالمقابل نرى أنّ الأهل يواجهون هذا السّلوك الطّفوليّ بالكثير من الصّبر فيقبلون طفلهم كما هو بانتظار أن ينمّي في داخله قوّة الصّبر الّتي تحوّله إلى إنسان قادر على ترويض ميوله ورغباته ومتطلّباته. وبالتّالي كلّ المجهود التّربوي يقوم على هذه النّقطة بالذّات، فالإنسان إذا ما ترك نفسه إلى ميوله وغرائزه لن يتمكّن لاحقاً من ضبط ذاته أمام أي متطلّبات. إنّما التّربية تعلّمنا أن نقبل الانتظار كي نحصل على ما نريد وما نرغب به. وهكذا مع مرور الأيّام والسّنين، يتكوّن شخص راشد، تكمن قيمة رشده ونضجه في أنّه تخلّى عن سلوكيّات الطّفل اللّجوج وغير الصّبور والّذي يحصل على كلّ ما يريده في الوقت الّذي يريد، دون أن يأخذ بعين الاعتبار مجرى الأحداث في حياته ولا بأي شكل من الأشكال. لذلك نرى الكثير من الرّاشدين مطبوعين بعامل الطّفولة وقوّة الطّفولة الّتي ينمّونها في كلّ العلاقات الإنسانيّة في حياتهم. بالمقابل نرى راشدين سيطروا عليها ويظهر ذلك في سلوكهم اليومي في الحالات والأحداث الّتي تطلّب منهم الصّبر والانتظار والمواجهات الّتي تستلزم صبراً ووضوح رؤية، كالقدرة مثلاً على استيعاب اعتداء خارجيّ. فقليلاً ما نرى أشخاصاً يتمتّعون بالهدوء ليتخطّوا أزمة ما يمرّون بها. ولكي نتحلّى بالصّبر، علينا أن نبذل مجهوداً يساعدنا على السّيطرة على أفكارنا وعلى رغباتنا. وهذا المجهود يكبر بقدر ما تتشعّب حياتنا وبالتّالي بقدر ما تتوافق مطالبنا مع مطالب الآخر. إنّما غالباً ما نستخدم الصّبر في حال لم تتوافق فيه مطالبنا مع مطالب الآخر، بمعنى الرّضوخ للآخر لتجنّب مشكلة معيّنة.
إذاً، الصّبر ليس بالفطرة، إنّما هو فعل تربويّ ينمّى ابتداء من مراحل الطّفولة بمساعدة الأهل الّذين يدرّبون الطّفل على السّيطرة على ميوله ورغباته، ويعلّمونه كيفيّة الانتظار لينال ما يرغب به. كما يساعدونه في تدريب طاقته الدّاخليّة ليتمكّن من ترويض مبتغاه، فيختار الوقت المناسب لتنفيذه بما يتوافق مع المتطلّبات الاجتماعيّة والمدنيّة والأخلاقيّة.
– كيف نتحلّى بالصّبر في عالم يصارع الوقت؟
في عالم تكثر فيه الميول والغرائز، وأصبح فيه إشباع المتطلّبات هو العامل الأهمّ، وفي عالم يسابق الوقت، تزداد المتطلّبات أكثر فأكثر ونشعر أن الإنسان بات بحاجة إلى تحقيق رغباته ومتطلّباته دون أن ينتظر. وأمّا المتروّون فقليلون، لأنه من الصّعب أن ننتظر ونصبر على قطف ثمار الجهود قبل أن تنضج، خوفاً من أن يسبقنا آخر على ذلك. وبقدر ما نسارع في نيل ما نريد، نشعر أنّنا لم نشبع حقيقة متطلّباتنا، لأننّا لم ننتظر بما يكفي كي تتحقّق في الوقت المناسب. من هنا فالصّبر فضيلة يجب أن نتحلّى بها وخصوصاً الأهل، كما أنّه ميزة تعلّمنا كيفيّة الانتظار حتّى النّهاية لننال ما نريد. وبقدر ما يتحلّى الأهل والمربّين بهذه الفضيلة في حياتهم ورسالتهم ، تكون العمليّة التّربويّة ناجحة…
يمنحنا الصّبر القدرة على عيش المجهود الّذي نمارسه، ويقوّي فينا الطّاقة الّتي تساعدنا على تطويع الأحداث الّتي تمرّ في حياتنا، فنواجهها بالقليل من الارتباك والقلق والاضطراب. والأهمّ أنّ الصّبر يسمح للوقت أن يأخذ مجراه الطّبيعي، وقد يمتدّ بين فترة طويلة أو قصيرة. ومن خلال هذا المجرى الطّبيعي للوقت، يكمل الإنسان عمله الّذي بدأ به والّذي يؤدّي إلى تحقيق أهدافه.
بدون الصّبر، سنثور كثيراً ونناضل في سبيل أمور لا نقبلها، وسنمحو الكثير من الأهداف النّبيلة. أمّا مع الصّبر فيحقّق الإنسيان الكثير ممّا يرجوه شرط ألّا يتحوّل الصّبر إلى نقطة ضعف.
– كيف يتحول الصبر ليكون نقطة ضعف في الإنسان؟
يصبح الصبر ضعفا إذا امتدّ بشكل مبالغ فيه وتحوّل إلى عامل خوف ورهبة، فيعطّل القدرة على التّفكير ويشلّ كلّ حركة إراديّة تهدف للتّغيير. فعلى سبيل المثال، عندما يشعر شعب بالظّلم والحرمان، أو عندما يشعر إنسان داخل بيته بالقهر والأسى وكلّ العذاب الّذي يكسر عنفوانه ويصمت، فهذا ليس تحلّياً بالصّبر، لأنّ هذا الصّبر يحوّل حياته إلى أزمة كبيرة تحول بينه وبين النّمو الطّبيعيّ. وأمّا إذا صبر الإنسان على عذابه وقهره بهدف التحسين من خلال إيجاد الحلول المناسبة والمساهمة في استخراج الإيجابيات من الوضع الذي يعيشه من أجل التّغيير، عندها يمكننا الحديث عن تحلّ بالصبر.
من هنا وجب أن نعرف أنّ الصّبر، بقدر ما يكون عامل قوّة وطاقة، يكون عامل ضعف ..والّذي يفصل بينهما هو المقدرة على التّمييز بين تنفيذ قرار شخصي من خلال السّعي إليه، و تنفيذ قرار الآخر…
ما لم يكن الصّبر عاملاً لتحقيق الذّات وتحسين للوضع، سيشكّل عاملاً يزيد من العذاب والضّغط. أمّا الطّاقة الإيجابيّة التي تكمن في الصّبر فهي تلك الّتي تحوّل وجودنا بأكلمه للأفضل. وعلى المدى البعيد، الصّبر الّذي يجعلنا معذّبين أكثر وراضخين للأمور الّتي نعيشها، يفقد طابعه الإيجابي، لأنّ ما نعتقده صبراً له تعريفات أخرى ألا وهي الخنوع والخضوع، فيمنعنا من تحقيق ما هو أفضل.
لذا مقابل كلّ الضّغوطات الاجتماعيّة والوطنيّة والعسكريّة، نرى في مكان ما حركة تتفجّر وتطالب بتحسين الأوضاع. وعندها يتحوّل الصّبر إلى عدم صبر، ويقدم الإنسان على إظهار كلّ ما عاشه في الخفاء فيقلب المقاييس. وهنا بحكم عامل الوقت، وبحكم عدم نيل المكالب بشكل سريع، يتحوّل عامل الصّبر الإيجابي إلى سلبيّ، لأنّ أي هدف يتطلّب الرّويّة والانتظار كي ينضج ويتحقق. بالتّالي لا بدّ من أن يقف الإنسان أمام سيرة حياته، ويتّخذ قراراً بعدم تقبّل واقع لا يرضى عنه، ويحتمله إلى ما لا نهاية، قبل أن يتحوّل صبره إلى عامل سلبي، فيصل إلى مكان يستحيل فيه التّغيير بشكل سليم بل على العكس يُغرقه في المزيد من الفوضى والقهر والعذاب.
يجب أن نتعلّم كيفيّة استخدام الصّبر، تلك القوّة الدّاخليّة الّتي تمنحنا الكثير من الأمل والوعد بمستقبل أفضل وأحسن والتي هي عامل قوّة بهدف حياة سليمة. فلا يكون الصبر انتظاراً لمجرّد الانتظار فيحجّم الإنسان ويحدّده ويمحي مصيره.
إنّ الإنسان بحاجة إلى هذه القوّة الدّاخليّة، قوّة الصّبر الّتي تجعله يتخطّى الصّعوبات بعامل الوقت. كما أنّه بحاجة لأن يكون مدفوعاً برغبة عدم الصّبر التي تساعده على ألّا يقبل بتراكم الأحداث غير المقبولة في حياته، فلا يرضخ لها بشكل إراديّ. وما بين الصّبر وعدم الصّبر، وحده الإنسان يستطيع أن يحكّم طاقته ويوظّف الصّبر بإيجابيته وسلبيّته، فيمتلك القدرة والقوّة على التّأقلم في حياته، واتّخاذ القرارات السّليمة.
ولكلّ المربّين الّذين يصلون إلى مرحلة من التأفّف بعد وقت طويل من الصّبر، لأنّهم يستهلكون الوقت في التعليم والتّدريب المستمرّ. إلّا أنّ التّافف يحوّلهم إلى مهاجمة الآخر لأنّهم لم يلقوا الإستجابة المطلوبة. لذا علينا أن نعرف أنّ العمليّة التّربويّة موجّهة بمسيرتها بالصّبر ولها هدف مشبع بالأمل بأنّ الأشخاص الّذين نربّيهم سيصبحون أفضل منّا في المستقبل. وهي عمليّة متكاملة، تبدأ في سنّ الطفولة ولا تنتهي لأنّه بدافع بداية كلّ علاقة جديدة يوظّف الإنسان كلّ مقدّراته وطاقته، فمرّة يعيش الصّبر لأنّه يتأمّل بالأفضل ومرّة أخرى وعندما يحين الوقت، عليه أن ينتفض ويحوّل تلك الطّاقة إلى عامل يساعده على اتّخاذ القرارات الصحيحة.
الفرق بين الإنسان الصّبور وغير الصّبور هو أنّ الأوّل قادر على فعل المعجزات، وعلى نقل الجبال وتحويل العلاقات وتحويل ذاته إلى إنسان واع وناضج. أمّا الثّاني فهو ثائر باستمرار لأنّه لا يملك القدرة على تحمّل ما يجري من حوله، وبالتّالي ثورته المستمرّة تعطّل قدرته على التحسين والتّغيير.