لمن يموت أولادي؟
الدّم يقطر ويسيل على أراجيح الأطفال، وكراريس الطّلّاب، وبقايا أقلام تتناثر هنا وهناك، تبحث عن ملامح صفحات بيضاء تخطّ عليها شهادة الدّم لقضيّة مجهولة. لمن يموت أولادي؟ للحيّ، للشّارع، للزّعيم، للطّائفة، للوطن، لله؟… لمن؟.
أيّ وباء يجتاح أوطاننا، أيّ طاعون يستحكم فينا ويلتهم أولادنا دون أن يرفّ له جفن؟! لم يبقَ منّا إلّا خيالات مستلقية على جدران مهشّمة، تنوء من شدّة الوجع، تنظر إلى قروح ليس لها دواء، وما تلبث أن ترفع رأسها وتنادي بما لا تعرف وما لا تعلم. تجترّ ثرثرات وأقاويل وأكاذيب، وتطالب بما هو مبهم، بأهداف ضبابيّة، وتسمّيها قضيّة. ولكن، لكلّ خيال قضيّة، ولكلّ جثّة نسورها، تجتمع عليها، تلقمها، ثم تغادر، ثمّ تعود، فالوليمة لا تنضب ولا يشح وردها.
لمن يموت أولادي؟ تتساءل أمّ ثكلى، فيجيبونها: ابنك شهيد! فتسكن الدّمعة في عينها برهة، ولعلّ عقلها يسكن أيضاً، وإنّما قلبها يأبى إلّا أن يحترق وينتحب ويبكي حرقة الوداع الأخير. تمدّ يديها لتلتقط خيوط الموت علّها تقودها إلى مثوى فلذة كبدها، فتعيقها أصوات أخرى تنوح على أخ أو أخت أو زوج أو…
باتت أوطاننا مسرحاً لعروض الدّم المتواصلة، على خشبته نتراقص حزناً وألماً. وما إن ينتهي العرض حتّى نسقط واحداً تلو الآخر بسلاح بطل واهم بقضيّة مبهمة، أو سلاح عبد غبيّ يقوده عبد ذكيّ. تسدل السّتارة، تقفل الأبواب، وإلى موعد آخر مع عرض جديد. وعند قارعة القبور، يقف حفّارون تمرّسوا على دفن جثثنا، لا يأبهون لعدد أو لون أو طّائفة. همّهم الوحيد أن يعتلوا منابر من جثث، ينعقون مطالبين بحقوق موتى، محرضينهم بعضاً على بعض، علّهم ما زالوا يتنفّسون. وفي معبد الموت، يسجد فاجرون لأصنامهم، يخدمونها، ويقرّبون لها الذّبائح باسم الدّين والوطن، ولا يدرون أنّه عندما تقرع طبول المصالح سيرسلون إلى حفّارين لقبورهم.
لمن يموت أولادي؟ يتساءل طائر مجروح، آتٍ من سماء بعيدة، حاملاً في جرحه غصون محبّة، تنزف رحمة ورأفة على عالم ما زال فيه قايين يقتل أخاه بدم بارد، وما زال دم هابيل يصرخ إلى السّماء من الأرض. ولكن أغصان المحبّة لا تتلف ولا تسقط، ولا بدّ من قلوب ترفعها عالياً وتسير نحو مسرح الشّمس حيث لا يتعثّر من يسلك في النّور. لا بدّ من بقيّة باقية، تكمل الطّريق، متّبعة آثار الطّائر المجروح، ملتحفة بالإنسانيّة الحقّة لا يصيبها وباء ولا يمسّها طاعون، حاملة مصابيح المحبّة والسّلام كي لا يموت أولادنا هباء.